مقالات

إنقاذ البصرة من عطش الملوحة: بين السدّ المدّي والتحلية البحرية

رياض العيداني

مقدمة

محافظة البصرة تعد من أغنى مدن العراق بالنفط وكذلك تعد من أهم المنفذ البحري له ، إذ تقف اليوم أمام أزمة وجودية خطيرة ألا وهي أزمة المياه الخانقة .

فعلى الرغم من ثرواتها الهائلة وموقعها الاستراتيجي على الخليج العربي ، يعاني سكانها من شحّ مياه الشرب وارتفاع نسبة الملوحة في شط العرب الى الحد غير المسموح به ، إذ وصلت الملوحة في محطة (البراضعية) مثلاً الى ما يقارب (30,000 TDS جزء في المليون) وهو ما يعادل مياه البحر تقريباً.

ومع تدفق مياه الصرف الصحي غير المعالج إلى النهر عبر الأنهر الفرعية والتي يبلغ عدد بشكل اجمالي (647 نهر فرعي) والتي تنقسم بطبيعتها الى قسمين رئيسيين هما :

أ-. الضفة الغربية (اليمنى) وتحتوي على (450 نهر).

ب-. الضفة الشرقية (اليسرى) وتحتوي على (197 نهر فرعي).

إذ تحولت بيئة المياه إلى خطر مباشر على صحة الإنسان والحياة المائية وحياة الحيوانات والنبات على حد سواء .

وهذه المفارقة القاسية هي أن تعيش مدينة نفطية غنية في قلب أزمة (عطش) وتلوث بيئي غير مسبوق ، تكشف بذلك عن ثغرات عميقة في إدارة ملف المياه في المحافظة ،فضلاً عن الحاجة الملحة إلى حلول جذرية وعاجلة.

من هنا تبرز أهمية الاستعانة بالشركات (الصينية الرصينة) ، التي باتت اليوم لاعباً أساسياً في مشاريع البنى التحتية العالمية.

و التجربة الصينية أثبتت قدرة هذه الشركات على تنفيذ المشاريع العملاقة في فترات زمنية قياسية ، وبكلف أقل بكثير من نظيراتها من الشركات الغربية ( الأوربية والأمريكية) ، فضلاً عن خبرتها في (محطات تحلية مياه البحر ، بناء السدود المائية، وشبكات نقل المياه).

ومع التوجه العالمي المتزايد نحو نموذج (PPP (Public–Private Partnership = الشراكة بين القطاعين العام والخاص) ، ويمكن للحكومة العراقية أن تعقد شراكات استراتيجية مع هذه الشركات بحيث تتحمل هي كلفة الإنشاء والتشغيل والصيانة ، مقابل عوائد متفق عليها مع الدولة ، مما يخفف العبء عن الموازنة العامة ويضمن استدامة الخدمة.

البصرة لا تحتاج اليوم إلى حلول جزئية أو ترقيعية ، بل تحتاج إلى (رؤية متكاملة) تضع من خلالها خطة طارئة للمعالجة الفورية ، وأخرى متوسطة المدى للاستقرار ، وصولاً إلى بناء بنية تحتية مائية دائمة.

وإذا ما أُحسن اختيار الشركاء الدوليين ، وخاصةً الشركات الصينية ، فإن هذه الرؤية يمكن أن تتحقق خلال فترة قصيرة نسبياً ، لتتحول البصرة من مدينة عطشى إلى نموذج وطني رائد في إدارة الموارد المائية.

أولاً: ملامح الأزمة

إن البصرة تعاني من ثلاثية خانقة وهي كالتالي :

1-. اندفاع اللسان الملحي من الخليج العربي إلى مجرى شط العرب.

2-. تدنّي كميات المياه العذبة الواردة من أعالي دجلة والفرات بسبب ضعف الإطلاقات المائية.

3-. التلوث البيئي والصحي الناتج عن تصريف مياه الصرف مباشرة في النهر ، إذ تحولت بعض الفروع المائية إلى مجارٍ مفتوحة.

هذه العوامل مجتمعة جعلت الماء المخصص للشرب غير صالح ، وفرضت على السكان الاعتماد على محطات صغيرة للتناضح العكسي (RO – Reverse Osmosis)، إلا أنها محدودة السعة وتعاني من أعطال متكررة.

ثانياً: الحلول العاجلة

من غير الممكن انتظار المشاريع الكبيرة لسنوات فيما يعيش المواطن أزمة يومية لذا، يمكن المباشرة بمجموعة إجراءات طارئة:

أ-. نقل مآخذ مياه الشرب إلى مناطق أقل ملوحة شمال البصرة.

ب-. تحسين أداء محطات RO القائمة عبر إضافة مراحل ترشيح متقدمة قبل وصول المياه للأغشية ، ما يطيل عمرها ويخفض كلفة التشغيل.

ج-. إغلاق المصارف الصحية المباشرة وتحويلها إلى خطوط ناقلة مؤقتة إلى حين استكمال محطات معالجة متخصصة.

د-. المزج الذكي للمياه: أي خلط المياه العذبة القادمة من أعالي دجلة مع مياه التحلية والمياه المتاحة لتحقيق نسبة ملوحة مقبولة (أقل من 1000 جزء في المليون) .

 

ثالثاً: مشاريع التثبيت

خلال سنتين يمكن للبصرة أن تنتقل من مرحلة (الإسعاف) إلى مرحلة (الاستقرار المائي) عبر مشاريع استراتيجية من أبرزها: التالي :

1-. السدّ المدّي (Tidal Barrage): وهو حاجز مائي ببوابات تنظيم يُنشأ على مقطع مناسب من شط العرب ، يُغلق عند فترات المدّ العالي ويُفتح عند الجزر، مما يمنع تقدم اللسان الملحي .

2-. تطوير قناة البدعة وخط أعالي دجلة : لزيادة كمية المياه العذبة الواصلة إلى البصرة بما لا يقل عن (10 أمتار مكعبة بالثانية).

3-. محطة تحلية بحرية كبرى (SWRO – Seawater Reverse Osmosis) بطاقة أولية (300–400 ألف متر مكعب يومياً) قابلة للتوسع حتى مليون متر مكعب، مع خط لتصريف الرجيع الملحي في البحر بطريقة آمنة بيئياً.

4-. إنشاء شبكة مزدوجة: الأولى للمياه الصالحة للشرب فقط ، والثانية للزراعة والصناعة ، ما يقلل الضغط على المياه المحلاة.

5-. إنشاء محطات معالجة مياه الصرف الصحي (WWTP – Waste Water Treatment Plant) لتصفية المياه الملوثة قبل إعادتها للبيئة أو إعادة استخدامها في الري.

رابعاً: البنية الدائمة

على مدى خمس سنوات يمكن للبصرة أن تؤسس بنية مائية مستدامة عبرالتالي:

أ-. خزانات جانبية : لتخزين المياه العذبة في فترات انخفاض الملوحة.

ب-. تنسيق الإطلاقات المائية من أعالي النهر : بما ينسجم مع حركة المدّ والجزر.

ج-. إدارة رشيدة للطلب عبر تقليل فاقد الشبكة وتبني أنظمة ري حديثة وزراعة محاصيل تتحمل الملوحة ، استخدام الطرائق الحديثة في الزراعة (الزراعة المائية) التي لا تستهلك في العادة كميات كبيرة من المياه .

د-. غرفة تحكم مركزية : لمراقبة نوعية المياه في الوقت الحقيقي ، بما يضمن الشفافية أمام المواطن.

ذ-. شراكات استثمارية (PPP – Public–Private Partnership) أي عقود بين الحكومة والقطاع الخاص ، سواء المحلي أو الأجنبي ، لتنفيذ مشاريع التحلية والصرف ، إذ تتحمل الشركة فيها (الإنشاء والتشغيل) مقابل مشاركة الأرباح.

خامساً: الأثر المتوقع

تنفيذ هذه الخطة المتدرجة سيؤدي إلى التالي :

1-. توفير مياه شرب نقية لملايين السكان.

2-. تقليص الاعتماد على صهاريج المياه الخاصة المكلفة.

3-. تحسين الصحة العامة عبر إنهاء مشكلة المجاري المكشوفة.

4-. توفير فرص عمل جديدة في مشاريع الإنشاء والتشغيل.

5-. حماية البيئة المائية من الانهيار والحفاظ على الثروة السمكية.

الخلاصة :

أزمة المياه في البصرة لم تعد مشكلة خدمية فحسب ، بل هي (قضية بقاء) تمس صحة الإنسان وكرامته.

فالحلول الترقيعية لم تعد كافية ، بل المطلوب رؤية متكاملة تبدأ بإجراءات سريعة وتصل إلى بنية مائية دائمة.

وإذا ما أُعطي المجال للشركات (الصينية) المتمرسة في بناء السدود ومحطات التحلية وفق نموذج (PPP) ، فإن البصرة قادرة خلال خمس سنوات أن تتحول من مدينة عطشى إلى نموذج وطني في إدارة الموارد المائية.

زر الذهاب إلى الأعلى