
بينما يواصل “الذباب المعارض” طنينه بلا أثر، يواصل العراق نسج خيوط استراتيجيته الهادئة، من ناحية كون ما حصل عملية استخباراتية أم لعبة شطرنج سياسية؟
في عالم الظلال، حيث تختفي الحقائق خلف جدران الصمت وتذوب التفاصيل في ضباب التكهنات، يبرز ملف إليزابيث تسوركوف كواحد من أعقد الألغاز السياسية والأمنية، التي شهدها العراق في السنوات الأخيرة، سنتان من الغياب المحاط بالسرية، صمتٌ ثقيل يخيم على كل تفاصيله، ثم ظهور مفاجئ لقرار الإفراج، الذي قلب المشهد وأشعل الأسئلة، من خطط؟ من نفّذ؟ ولماذا الآن؟
ولم تكن القصة مجرد حادثة اختطاف وانتهاءها بعملية إطلاق سراح، بل بدت كفصل جديد من لعبة معقّدة أُديرت بعناية فائقة، أظهرت أن العراق ـ أو الجهة التي أدارت هذا الملف ـ يمتلك قدرة استراتيجية على استخدام الأدوات غير التقليدية لإدارة علاقاته الخارجية.
وكما هو معروف، لكل عملية ذات أبعاد أمنية وسياسية طويلة الأمد لا تُقرأ من زاوية واحدة، بل من مشهد أكبر، ولهذا يحمل إطلاق سراح تسوركوف بعد عامين من الاحتجاز أكثر من إشارة:
1. الرسالة للعالم: العراق لم يعد ساحة مفتوحة بلا قدرة على الإمساك بالأوراق، بل أصبح لاعباً يجيد توقيت تحريك الملفات واستخدامها كأداة تفاوضية غير معلنة.
2. الإدارة الهادئة: خلال العامين، لم تُفتح مغاليق هذا الملف على الإعلام، وهو ما يعكس وجود خطة واعية لإبقائه ورقة ضغط بيد جهة تعرف متى وكيف تستخدمها.
3. البعد الإقليمي: توقيت الإفراج لم يكن بريئاً؛ إذ جاء في لحظة حساسة تشهد فيها المنطقة صراعات متعددة وتغييرات في معادلات النفوذ، ما يجعل العملية جزءاً من معادلة توازن القوى.
4. إعادة تعريف المعارضة: مقابل هذا الفعل الاستراتيجي المعقد، لا يملك من يصفون أنفسهم بـ”المعارضة” سوى أدوات ضجيج رقمية على مواقع التواصل، ليبدوا كـ”ذباب معارض” يطنّ بلا تأثير.
ومن هنا يعتبر ملف تسوركوف أقرب إلى رواية بوليسية تُقرأ على مراحل، فهو اختفاء غامض وسط بغداد، وجدران صمت أحاطت بالقضية، وأطراف غامضة تتحكم بخيوط اللعبة من خلف الستار، وتسريبات متناقضة بين حين وآخر، بعضها يُلمّح إلى دور هذه الجهة أو تلك، وبعضها الآخر يشي بمحاولات تضليل مقصودة، لتبقى الحقيقة أسيرة الغموض.
ومن ثم يأتي مشهد النهاية: إطلاق سراحها بعد عامين، وكأن الستار قد أُسدل على فصل محبوك بعناية، تاركاً الرأي العام أمام سؤال أكبر: هل ما جرى عملية أمنية بحتة؟ أم كان ورقة في لعبة تفاوض دولية؟ وهذه الأجواء البوليسية لم تكن عبثية، بل مقصودة، لتأكيد أن الصمت المدروس أكثر فاعلية من أي تصريح أو إعلان.
وما بين لحظة الاختفاء ولحظة الإفراج، كتبت تسوركوف قصة جديدة عن العراق باعتباره بلداً يعرف كيف يحوّل الغموض إلى أداة قوة، وكيف يجعل من الملفات الغامضة أوراقاً للتأثير الإقليمي والدولي، وهو درس سياسي وأمني في آنٍ واحد، يجعل من يملك القدرة على إدارة الصمت يملك القدرة على توجيه النتائج.
وبينما يواصل “الذباب المعارض” طنينه بلا أثر، يواصل العراق نسج خيوط استراتيجيته الهادئة، من ناحية كون ما حصل عملية استخباراتية أم لعبة شطرنج سياسية؟ والتي قد لا تُقال بصوت عالٍ، لكنها تُسمع جيّداً في أروقة القرار الإقليمي والدولي.