
تقودنا الحكمة المعروفة (( إذا أردت أن تطاع فاطلب على قدر المستطاع )) لوجوب الواقعية في بناء العلاقات الشخصية والمهنية وفي توقعاتنا لاستجابة الآخرين لمطالبنا ، وقد استحضرنا هذه الحكمة ونحن نطلع على خبر تم تداوله في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ، ومفاده إن إحدى لجان مجلس النواب قدمت مقترحا إلى رئاسة الوزراء يتضمن تعديل قانون التقاعد الموحد ليحتسب الراتب التقاعدي على أساس الراتب الكلي للموظف بدلا من الراتب الاسمي ، في خطوة تهدف إلى تحسين المستوى المعيشي للمتقاعدين وتحقيق العدالة الاجتماعية .
ورغم ما يحتويه هذا الخبر وما تتصل به من تصريحات من قبل بعض أعضاء البرلمان من تفاؤل ووعود ، إلا انه يبقى في طور الأمنيات ولا يمكن بلوغه في الوقت الحاضر وفي المستقبل القريب بأي شكل من الأشكال ، لا بسبب يتعلق بالموظفين ودورهم والرغبة بتحسين أوضاعهم بعد التقاعد ، وإنما من معرفة تفصيلية بالإشكاليات التي يمر بها اقتصادنا الوطني في اعتماده شبه الكلي على مبيعات النفط التي تحول من الدولار إلى الدينار ، او من تشكي الحكومة من الالتزامات التي يفرضها حجم الرواتب التي تدفع للموظفين والتي تضطرها للاقتراض الداخلي لمعالجة العجز المالي والنقدي ، ومن وجهة الكثير فان الرواتب باتت عبئا كبيرا على الموازنات ومن الصعوبة تخفيفه رغم ما اتخذت من إجراءات بتشجيع الخروج المبكر للتقاعد او منح إجازة ال5 سنوات او غيرها من الإجراءات ، وإشكالية الرواتب تزداد بزيادة التعيينات حتى وان أعلن إيقافها في الكثير من المرات ، فالتعيينات ستستمر ولها مبررات فبعضها متطلبات وبعضها الآخر استحقاقات ودونها بطالة تفتك لأكثر من مليونين لا يزالون يعلقون الأمل على فتح أبواب التعيينات .
لقد نصت مواد قانون التقاعد الموحد ( المعدل ) رقم 9 لسنة 2014 على احتساب الراتب التقاعدي بما لا يجيز للمتقاعد استلام ما كان يتقاضاه أثناء الوظيفة ، وتعتمد هذه النصوص معادلات تلغي جميع المخصصات التي كان يتقاضاها الموظف فهي تعتمد الراتب الاسمي وتستبعد كل أنواع المخصصات حتى مخصصات الزوجية والأولاد ، ويسري ذلك حتى على الاستثناءات التي منحت للقضاة وموظفي الخدمة الجامعية وغيرهم ، ورغم إن القانون أجاز في المادة 36 بان : ( تزداد الرواتب التقاعدية بقرار من مجلس الوزراء كلما زادت نسبة التضخم السنوي ) ، إلا إن ذلك لم يطبق منذ سريان القانون قبل 10 سنوات رغم ما شهد البلد من مطالبات بهيئة مظاهرات واعتصام لعشرات المرات للمطالبة بزيادة الرواتب التقاعدية ، و الحكومة لم تعدل رواتب المتقاعدين رغم التضخم ( الفعلي ) الذي تعرض له البلد والذي أصاب القدرات الشرائية بالانخفاض ، وقرارات الزيادة التي صدرت لم تمس الرواتب وإنما أضافت مبالغ وسمتها ( مخصصات غلاء المعيشة ) ولم تشمل الجميع واقتصرت لمن رواتبهم اقل من مليون دينار ، ولا نتوقع أن تزداد رواتب المتقاعدين الحاليين بالموازنة الثلاثية نظرا لما يشكله ذلك من تكاليف كبيرة تخص قرابة 4 ملايين .
ولا يعني عدم زيادة الرواتب إنكارا للعرفان بالجميل للجهود و التضحيات التي قدمها المتقاعدون خلال سنوات خدمتهم وإنما نمارضوخا للواقع المرير الذي يمر به اقتصادنا الوطني ، و إذا كانت الظروف لا تسمح بزيادة الرواتب التقاعدية بنسبة 10% فأكثر كعلاوة تضخم فكيف يعقل أن تحتسب الرواتب التقاعدية مع المخصصات لمن سيحالون على التقاعد وبأثر رجعي ؟! ، فتلك المسالة يمكن أن تتم ولكن ليس من خلال قانون التقاعد الحالي وما يمكن أن يطرأ عليه من تغييرات هنا او هناك ، وإنما من خلال إيجاد تشريع يقضي بوجود هيئة لضمان الموظفين والمتقاعدين ، وهدفها تامين دخل مناسب للموظفين بعد التقاعد من استقطاعاتهم أثناء الخدمة على أساس ما يستلموه من الاستحقاق ومن الاستثمارات دون منة او صدقة من الدولة ، ويمكن صياغة نصوص قانون الهيئة ليس بعقلية بيروقراطية وإنما بطريقة مرنة تتيح الخيار للموظف في تحديد ما يختاره من مبلغ تقاعدي ، وفي ضوء ما يريد تحدد قيمة الاستقطاعات وتودع الأموال بصندوق استثماري لا تتحكم فيه الدولة وإنما يدار بعقلية مالية واقتصادية من قبل مختصين فعليين ، وان مقترحا من هذا النوع لا يلغي هيئة التقاعد الحالية ، ويمكن أن تتحول إلى دائرة تهتم بتقاعد من تقرر الدولة تخصيص الرواتب التقاعدية لهم كاستحقاق أنساني او وطني بما يجعل رواتبهم من تخصيصات موازنة الدولة وليس من الصندوق الذي يساهم به الموظفون ، والقضية قابلة للنقاش والحوار وما بعدها القرار للتخلص من مذلة التقاعد بعد عذاب ومعانة الوظيفة لسنوات واعوام .



