
منذ عقود طويلة، شكّل ملف التجنيس والتغيير الديمغرافي في العراق أداةً استخدمتها قوى سياسية وأنظمة متعاقبة عبر التاريخ، سواء عبر إشاعة روايات وأساطير ضد المكوّن الشيعي، أو عبر سياسات الاستقدام والتهجير التي استهدفت خلخلة التوازن السكاني في البلاد.
أولاً: كذبة “الشيعة هنود” في زمن البعث
بعد استيلاء حزب البعث على الحكم في ستينات القرن الماضي عبر الانقلابات العسكرية، وأمام تمسّك الشيعة بمرجعيات النجف ووفائهم لعبد الكريم قاسم، ظهرت دعايات سياسية تزعم أن “الشيعة أصلهم هنود جاؤوا مع الجاموس الذي جلبه الحجاج من الهند إلى أهوار العراق”.
غير أنّ الحقائق الآثارية والتاريخية تُفنّد ذلك؛ فالمنحوتات السومرية التي وصفها المؤرخ “كريمر” توثق وجود الجاموس في أهوار وادي الرافدين منذ أكثر من ٧٠٠٠ سنة، أي قبل الإسلام بقرون طويلة، فما بالك بالبشر الذين أسسوا حضارات سومر وأكد وبابل!
ثانياً: تهمة “التبعية الفارسية”
في بدايات الحرب العراقية – الإيرانية، استُخدمت تهمة “التبعية الفارسية” ضد أبناء الجنوب والشيعة، وتمّ تهجير عشرات الآلاف إلى إيران، ومن بينهم الكرد الفيلية وعدد من القوميات الأصيلة. كما استُخدم الكثير من الشيعة في جبهات القتال.
هذا المشهد يعيد إلى الأذهان سياسات أقدم، مثل ما حدث في العهد العثماني حين جرى نقل عشائر من ديالى إلى ميسان، في محاولة لتغيير التركيبة المذهبية، لكنّ النتائج التاريخية جاءت معاكسة، إذ تحولت بعض تلك العشائر لاحقًا إلى المذهب الشيعي وأصبحت جزءًا من النسيج الجنوبي المقاوم، مثل عشيرة البو محمد التي برز أبناؤها اليوم في مقدمة الحشد الشعبي والكتل الشيعية في الدولة العراقية.
ثالثاً: استقدام العمالة المصرية
في أواخر السبعينات، ومع التحولات الإقليمية، بدأت موجات كبيرة من العمالة المصرية بالوصول إلى العراق، قُدرت بملايين الأشخاص، بدعوى سدّ الحاجة إلى الأيدي العاملة. غير أن هذا الملف ارتبط لاحقًا باعتبارات سياسية وأمنية، خصوصًا بعد موقف القاهرة في حرب الخليج الثانية عام 1991، حيث غادر أغلب هؤلاء العمال العراق بشكل مفاجئ، لينتهي المشروع دون تحقيق أهدافه.
رابعاً: مشروع توطين فلسطينيين في الأنبار
في عام 2020، ظهرت خطط لتوطين أعداد من أبناء الضفة الغربية الفلسطينية في محافظة الأنبار، وهو ما ارتبط بجهات إقليمية ودولية. جرى إعداد بعض البنى التحتية لذلك، لكن التطورات اللاحقة في المنطقة، لاسيما معركة ٧ أكتوبر 2023 التي غيرت المشهد الفلسطيني – الإسرائيلي، حالت دون المضي في هذا المشروع.
خامساً: تجنيس عوائل سورية (2025)
أما في عام 2025، فقد ظهر ملف جديد أثار جدلاً واسعًا، يتعلق بتجنيس عوائل سورية في العراق، حيث تحدّثت تقارير ميدانية عن حصول آلاف الأسر على وثائق رسمية صادرة من محافظة الأنبار. وقد أعلنت القوات الأمنية لاحقًا عن ضبط مجموعات تحمل هذه الأوراق، مما فتح باب النقاش حول خطورة هذا التوجه وأهدافه في التغيير الديمغرافي.
إنّ سياسات التجنيس والتغيير الديمغرافي ليست وليدة اللحظة، بل لها جذور عميقة في التاريخ السياسي للعراق. وقد استُخدمت هذه السياسات لتوجيه التوازن السكاني باتجاهات معيّنة، لكنّها فشلت مرارًا في تحقيق أهدافها، أمام إرادة الشعب العراقي وتمسكه بمرجعيته الدينية.
التاريخ يثبت أن العراق، بأضرحة آل البيت (عليهم السلام) المنتشرة على أرضه، ظلّ الأرض المختارة لانتشار التشيع، وأن كل محاولات التغيير المفروضة من الخارج سرعان ما تتلاشى، بينما يزداد التشيع قوةً وانتشارًا، في انتظار الظهور المبارك لصاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه).


