مقالات

المظلومية المزيّفة والمتاجرة بدماء الضحايا

ناجي الغزي/ كاتب وباحث سياسي

في المشهد السياسي العراقي، يندر أن تجد خطاباً أكثر وقاحة وابتذالاً من ذلك الذي يقدّمه أمراء المال والفساد والطائفية، وهم يرفعون راية المظلومية كلما احتاجوا إلى صفقة أو أرادوا ممارسة الابتزاز أو إعادة التموضع في الخارطة السياسية. ولعلّ أبرز مثال على ذلك هو خميس الخنجر، الذي يطلّ بين الحين والآخر ببيانات متخمة بالعاطفة الزائفة، متباكياً على ضحايا الإخفاء القسري، ومقدّماً نفسه بوقاً للعدالة ومحامياً عن المظلومين. غير أنّ الحقيقة التي لا تغيب عن العراقيين أنّه ليس سوى تاجر دماء، حوّل المآسي إلى رأس مال سياسي ومالي، وتنعم هو وعائلته بأموال السحت التي جُمعت من الخارج تحت لافتة “المظلومية”، فيما سخّر أدواته الإعلامية، وفي مقدمتها قناة (UTV)، لتزييف الوعي وتشويه الحقائق.

*أي تغييب يتحدث عنه الخنجر؟*

حين نريد أن نتناول هذا الملف بجدية، لا بد أن نضع الأمور في سياقها التاريخي، كما وثّقته مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، التي قسّمت مسار الاختفاء القسري في العراق إلى مراحل متعاقبة منذ عام 1968.

كانت البداية مع مرحلة حكم البعث (1968–2003)، حيث غاب مئات الآلاف في أقبية السجون ومقابر جماعية حفرتها حملات الاعتقال والإبادة والتهجير القسري. اختفى المعارضون السياسيون الاسلاميون والشيوعيون، كما اختفى آلاف الكرد في حملات الأنفال، وسُلبت حياة الطوائف والأقليات بقرارات حزبية لا تعرف سوى الحديد والنار.

ثم جاءت مرحلة ما بعد الغزو الأميركي (2003–2014)، ومعها عمت الفوضى الأمنية، وتكاثرت المليشيات والجماعات المسلحة، فتضاعفت أعداد المفقودين. في تلك السنوات السوداء، صار الخطف والقتل على الهوية أداة سياسية، وصار الإخفاء القسري وسيلة لفرض النفوذ والانتقام.

أما مرحلة داعش (2014–2017) فكانت الكارثة الأشد فداحة. آلاف من الإيزيديين والشيعة والسنة والمسيحيين ابتلعتهم وحشية التنظيم، وامتلأت سهول نينوى وصلاح الدين والأنبار بمقابر جماعية لم تزل تُكتشف إلى يومنا هذا. كان التغييب هنا لا يميز بين مكوّن وآخر، بل كان مشروع إبادة متكامل.

بعد هذا العرض، يبقى السؤال معلقاً: عن أي تغييب يتحدث عنه الخنجر؟ أيتحدث عن تغييب البعث الذي كان حاضنة لبعض العشائر التي يتكئ على خطابها اليوم؟ أم يقصد تغييب ما بعد 2003، يوم كانت المليشيات والإرهاب معاً يحصدان الأبرياء في وضح النهار؟ أم عن مقابر داعش التي ابتلعت ضحاياها بلا رحمة؟

الحقيقة أن خطاب الخنجر انتقائي إلى حد الفضيحة. فهو لا يرى التغييب إلا من زاوية ضيقة تخدم مصالحه، ولا يرفع صوت الضحايا إلا إذا كان صداها يعود عليه بمكسب سياسي أو رصيد تفاوضي. هكذا تتحول المظلومية من قضية إنسانية عادلة إلى أداة رخيصة في بازار السياسة.

*مجزرة سبايكر: جرح لم يندمل*

ولعلّ أوضح مثال على تزييف خطاب الخنجر هو مجزرة سبايكر، حيث اقتيد أكثر من 1700 شاب أعزل من طلبة القوة الجوية، وقُتلوا بدم بارد على يد ما سُمّوا “ثوار العشائر” وتنظيم داعش. تلك الجريمة كانت إحدى أكبر حلقات التغييب الجماعي، ومع ذلك لم يجرؤ الخنجر يوماً على الإدانة الصريحة لها، بل كان جزءاً من ماكينة التبرير الإعلامي والسياسي التي هيّأت الأرضية لدخول الإرهاب. واليوم يتباكى على “المغيبين” متجاهلاً أنّ دماء سبايكر ما زالت شاهدة على من خان، ومن تستر، ومن تاجر.

الضحايا الحقيقيون ليسوا ورقة بيد الخنجر، ولا شعاراً يتغنى به في بياناته. الضحايا هم أمهات سبايكر اللواتي ما زلن ينتظرن العدالة، وأسر الإيزيديين الذين ما زالوا يبحثون عن أبنائهم في المقابر الجماعية، والشيعة والسنة والمسيحيون الذين ابتلعتهم آلة الاستبداد والإرهاب منذ عقود. هؤلاء لا يمثّلهم خطاب زائف يتحدث باسمهم لابتزاز الدولة أو كسب رضى الخارج.

إنّ الجريمة الحقيقية ليست فقط تغييب الأبرياء، بل أيضاً تغييب الحقيقة عن وعي الناس. والخنجر وأمثاله يمارسون هذه الجريمة كل يوم عبر تسويق المظلومية المزيّفة، التي تسعى إلى خلط الجلاد بالضحية، وإعادة إنتاج رواية مشوهة للتاريخ.

*المظلومية كسلاح للابتزاز*

لقد حوّل الخنجر “المظلومية” إلى تجارة مربحة. حصل على استثمارات بمليارات من الحكومة، وتدفقت إليه أموال خليجية ضخمة بدعوى تمثيل “المكوّن المظلوم”، بينما بقيت مدن الضحايا غارقة في الدمار والبطالة والتهميش. الأدهى من ذلك أنه سخّر قناته UTV لتزييف الحقائق، وتقديم رواية أحادية تنتصر له ولمنظومته، وتُسكت أي نقاش جدي عن المسؤولية الحقيقية في ملف المغيبين.

العراق لا يُبنى بالمتاجرة بالدماء، ولا تُعاد كرامة المغيبين بخطابات انتقائية. العدالة الحقيقية تبدأ بالاعتراف بكل مراحل الإخفاء والتغييب التي عاشها هذا البلد منذ 1968 حتى اليوم، ومحاسبة جميع المتورطين بلا استثناء. أما خميس الخنجر، فهو أبعد ما يكون عن صوت الضحايا؛ إنه أحد الذين جعلوا من المظلومية تجارة، ومن دماء الأبرياء رصيداً سياسياً.

زر الذهاب إلى الأعلى