مقالات

اليهودي الذي لم يكن عدواً حتى قرر أن يصبح مستوطناً

سلام عادل

كانت الحكاية في بدايتها بسيطة، مجرد جماعة بشرية موزّعة بين غرب يكرهها وشرقٍ يحتضنها، ولكن التعقيد بدأ حين قرّر اليهود أنفسهم أن يخلطوا بين المظلومية والعدوان، وأن يُحوِّلوا الاضطهاد إلى مشروع استعمار

في أوروبا، كان اليهودي مواطناً مسحوقاً، يطارده اللاهوت والمال والدم، أمّا في الشرق، فقد عاش مكرّماً مهيباً، يبيع ويشتري ويؤلّف في ظلّ خلفاء وأمراء رأوا فيه جزءاً من نسيجهم التجاري والثقافي، لم تُحرق معابدهم، ولم يُساقوا إلى أفران الغاز، ولم تُسفك دماؤهم على مذابح الكراهية كما فعل الغرب “المتحضّر”، ولهذا لم تكن الصهيونية حاجةً شرقية بل كانت اختراعاً غربياً خالصاً، صاغه عقلٌ أوروبي مأزوم يبحث عن خلاصٍ من مشكلته عبر تصديرها إلى الشرق.

وفي العراق مثلًا، كان اليهود من أبرز الكتّاب والموسيقيين والتجّار، ولم يُعامَلوا يوماً كغرباء، وحين هاجر بعضهم إلى فلسطين بدافع الدعاية الصهيونية، لم تُغلق بغداد الباب، بل أصدرت قانوناً يسمح لهم بالعودة قبل إسقاط الجنسية، في واحدة من أكثر لحظات التاريخ الإنساني نبلاً وعدلاً، ولكنّ كثيرين منهم اختاروا أن يكونوا “وقوداً لمشروعٍ أجنبي”، بدل أن يكونوا جسراً بين حضارتين.

وهنا يكمن الفارق بين “يهود 48” و”عرب 48”، فالأوّلون دخلوا فلسطين كمليشيات ومغتصبين، بنوا دولتهم على المقابر والجثث، أمّا الآخرون فظلّوا أبناء الأرض، يواجهون التهجير بالحنين، والتمييز بالكرامة، والعنف بالثبات، يهود 48 هم صُنّاع الكيان، وعرب 48 هم شهود الجريمة.

والمفارقة أن يهود الشرق داخل إسرائيل اليوم يعيشون حالة قطيعةٍ مع ذواتهم، فهم لا يُعاملون كمواطنين من الدرجة الأولى، ويُذكّرهم “الإشكناز” الغربي دائماً بأنّهم أبناء شرقٍ أدنى، ولهذا تراهم يحنّون إلى بغداد وحلب وصنعاء، إلى أغانٍ سمعوها في طفولتهم، إلى بيوتٍ تركوها برغبةٍ وندم، بينما لا نكاد نسمع عن يهودي غربي يحنّ إلى برلين أو وارسو — لأنّه لم يكن له هناك سوى الرماد.

ولقد كانت “المشكلة اليهودية” جزءاً من المرض الأوروبي، مثلما “المشكلة البلقانية” أو “مشكلة الغجر”، كذلك صيغت “Jewish Problem” كعلامة على فشل الحضارة المسيحية في استيعاب الآخر، ولكن في الشرق، لم تكن هناك “مشكلة يهودية” أصلاً؛ كانت هناك جيرة وعيش وموسيقى ومواسم، إلى أن قرّر الغرب أن يحلّ مشكلته عبر خلق مشكلة جديدة لنا.

وإذا كانت الصهيونية قد وُلدت كمشروع تحررٍ لليهود من ظلم أوروبا، فقد تحوّلت في المشرق إلى مشروع استعبادٍ للفلسطينيين، وإهانةٍ لليهود الشرقيين أنفسهم، لذلك هم لم يتحرروا، بل استُخدموا — كمرتزقةٍ في معركةٍ لا تخصّهم، ضد أرضٍ كانت تخصّهم بالحبّ والذاكرة.

ووفق محكمة الإنسانية والضمير، على يهود الشرق أن يراجعوا أنفسهم، لا كيهودٍ فقط، بل كبشرٍ أضاعوا أوطانهم الأصلية حين قبلوا أن يكونوا أدواتٍ في يد مشروعٍ يرى في الآخر مجرد مساحةٍ للاستيطان، فمن عاش في الشرق لم يكن غريباً، ومن انضم إلى الكيان الغاصب صار غريباً حتى داخل “دولته” المزعومة.

والحقيقة، التي لا يحبّ الغرب سماعها، أن اليهود لم يكونوا مشكلة في الشرق قط، بل كانوا جزءاً من الحلّ الإنساني، الذي دمّرته الصهيونية باسم الخلاص، والذين يبحثون اليوم عن هويةٍ في تل أبيب، إنما يفتّشون في الرماد عن موسيقى منسية قادمة من نهر دجلة، لذلك يمكن القول إن اليهودي، الذي عاش بيننا، لم يكن عدواً، حتى قرّر أن يصبح مستوطناً.

زر الذهاب إلى الأعلى