
حين تقول المرجعية في النجف إن التمسك بالدستور هو الضمانة، فهي تدرك أن البديل هو الانهيار، والأصوات الداعية للمقاطعة ونشر السلبية لا تقدم بديلاً واقعياً.
كتب / سلام عادل
منذ سقوط النظام السابق عام 2003، دخل العراق مرحلة سياسية جديدة عنوانها الدستور والديمقراطية وصناديق الاقتراع، ورغم كل ما رافق هذه التجربة من ثغرات ومطبات، تبقى الديمقراطية الخيار الأفضل والوحيد، مقارنةً بالفوضى أو العودة إلى زمن القمع والاستبداد، ومع أن الديمقراطية ليست وصفة مثالية، ولا هي عصا سحرية لحل المشكلات، لكنها الإطار، الذي يضمن بقاء الدولة والمجتمع داخل سياق سياسي سلمي، بعيداً عن لغة الانقلابات أو العنف.
ولهذا تشدد مرجعية النجف على ضرورة الالتزام بالسياقات الدستورية واحترام قواعد النظام الجديد، وهذا الموقف لم يكن تفصيلاً دينياً أو وعظياً، بل هو رؤية استراتيجية عميقة، تدرك أن أي انحراف عن الديمقراطية يعني إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فالتجربة العراقية مع الاستبداد مريرة جعل البلاد تدفع ثمناً باهظاً، دماء وخراب، لذا فإن التمسك بالعملية السياسية، مهما بدت متعثرة، هو الضمانة لعدم عودة العراق إلى الظلام.
والمؤسف سماع بعض الأصوات، التي تسمّي نفسها معارضة، باعتبارها لا تمتلك أدوات العمل السياسي، ولا تفهم أبسط قواعد اللعبة الديمقراطية، فالمعارضة في كل الدول المحترمة تمارس دورها عبر البرلمان والانتخابات والبرامج البديلة، أما في العراق، فهناك من يختصر المعارضة بشعار “المقاطعة”، أي منطق هذا؟ كيف يمكن أن تعارض وأنت خارج اللعبة بالكامل؟ المقاطعة ليست شجاعة بل هروب من المسؤولية، وليست وعياً بل تَيهاً سياسياً، من هنا تبدو الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات أشبه بمن يطلب من الناس أن يطفئوا النور كي يروا أوضح!
والتاريخ العراقي الحديث واضح: صناديق الرصاص والانقلابات العسكرية لم تجلب سوى المقابر الجماعية والحروب العبثية، واليوم، لدى العراقيين صناديق اقتراع، ورغم ما يُثار حولها من جدل، تبقى الوسيلة السلمية الوحيدة للتغيير، والفرق بين الخيارين ليس بسيطاً: فالأول يعني الدماء والدمار، والثاني يعني جدلاً سياسياً يمكن معالجته بالحوار والإصلاح.
ومن الخطأ الاعتقاد أن الديمقراطية تعني نهاية المشكلات، بل هي ساحة مفتوحة للتنافس، فيها من يربح ومن يخسر، وفيها مجال للفساد كما فيها فرصة للإصلاح، لكنها تبقى أماناً عاماً يمنع عودة الاستبداد، والدليل أن كل الدول، التي فرّطت بالديمقراطية، سرعان ما وجدت نفسها سجينة أنظمة بوليسية أو غارقة في الفوضى.
وبنظرة سريعة إلى تجارب بعض الدول تكفي لتوضيح المخاطر، ففي أميركا اللاتينية، حين عزف الناس عن المشاركة في الانتخابات، جاءت الانقلابات العسكرية وأحالت البلاد إلى سجون مفتوحة، وفي بعض الدول العربية ايضاً، كانت نتيجة ضعف الثقة بالانتخابات فتح الباب أمام الاستبداد لعقود طويلة، ولهذا الديمقراطية إذا ضعفت أو تخلّى عنها الناس، لا تعود بسهولة، وهي أشبه بالهواء: لا ندرك قيمته إلا حين ينقطع.
والأخطر ما يروّجه البعض أن الانتخابات نزيهة فقط حين يفوزون، ومزوّرة حين يخسرون، وهذا منطق مريض يهدم أي ثقة بالعملية السياسية، ولنا في التجربة الإيرانية مثال: عندما صرّح الرئيس الأسبق محمد خاتمي أن الانتخابات مزورة، قوبل كلامه بالاستهجان وفرضت عليه قيود، لأن الديمقراطية لا تتحمل هذه الازدواجية، إما أن نقبل بقواعد اللعبة كما هي، أو نخرج منها، ولهذا لا يحق لأحد أن يلعب متى يشاء ويصرخ “مزورة” متى خسر.
وفي الخاتمة، الخيار أمام العراقيين اليوم واضح وصارخ: إمّا التمسك بالديمقراطية، بما فيها من تحديات، أو السقوط مجدداً في هاوية الاستبداد والفوضى، حيث لا توجد منطقة رمادية بين الاثنين، المقاطعة ليست حلاً، والتشكيك ليس بديلاً، والديمقراطية قد تكون مريرة أحياناً، لكنها الطريق الوحيد لبناء دولة قادرة على حماية مواطنيها وضمان مستقبل أجيالها.