مقالات

الزحف التركي إلى العراق
جيش بلا دبابات واحتلال بلا خرائط

سلام عادل

سيأتي يومٌ تُرفع فيه لافتة تركية جديدة على مبنى رسمي في الموصل أو دهوك، ولن يسمّيها أحد احتلالاً، لأن الجميع سيكون قد اعتاد على وجودها، فالتوسّع حين يُصبح مألوفاً يفقد اسمه

كتب / سلام عادل

لم يعد التوسّع يحتاج إلى دبابة، ولا الاحتلال إلى إنزالٍ عسكري، يكفي تصريحٌ من أنقرة، وتحرّكٌ إعلامي منظّم، وسلسلة من الاتصالات الدبلوماسية المغلّفة بعبارات التعاون، حتى يصبح الوجود واقعاً لا يحتاج إلى إعلان، فتركيا، التي خاضت معاركها التاريخية بالسيوف، تخوض اليوم معركتها الكبرى بالاستثمارات، وبالمياه، وبقنوات تلفزيونية تنطق بالعربية وتبث خطاباً تركياً ناعماً يغزو العقول قبل الخرائط.

وما يُسمّى اليوم بـ”العمليات ضد حزب العمال الكردستاني” لم يعد سوى عنوان مريح لتبرير ما هو أعمق وأخطر، الترسيم البطيء لمنطقة نفوذٍ تركية داخل شمال العراق، وقواعد عسكرية في دهوك وزاخو، وانتشار استخباري واسع، وزيارات رسمية متكرّرة تتجاوز الأصول الدبلوماسية، ومشاريع إعمار ظاهرها مدني وباطنها أمني، جميعها تمثل سياسة “الزحف الهادئ” التي تتقدّم فيها أنقرة كل يوم خطوة، وتترك للعراقيين مهمة التصفيق للبيانات وإحصاء عدد الاجتماعات.

ولقد فهمت أنقرة اللعبة جيداً، واشنطن لا تريد أن تنسحب تماماً من المنطقة، لكنها تريد من يملأ الفراغ عنها، لا من ينافسها، وإسرائيل بدورها تبحث عن حليفٍ سُنّيٍ قويٍّ يقف في وجه إيران دون أن يرفع الشعارات، فكانت تركيا المرشّح المثالي للدور المزدوج، باعتبارها خصمٌ لإيران في العلن، وشريكٌ لتل أبيب في الخفاء، وهكذا صار التدخّل في الشمال العراقي يبدو كأنّه “خدمة استراتيجية” ضمن الصفقة الأمريكية الإسرائيلية، وليس عدواناً على دولة ذات سيادة.

ومنذ سنوات، تُمارس تركيا هندسةً دقيقة في العراق، تبدأ بالاستثمار في البنى التحتية والمياه، ثم تنتقل إلى الإعلام والثقافة، ثم إلى الأمن والسياسة، ومن يتابع الخطاب التركي يلاحظ أنّ كلمة “العمق الاستراتيجي” لم تعد مجرّد نظرية أكاديمية كتبها أحمد داوود أوغلو، بل تحوّلت إلى عقيدةٍ تُنفّذ بخطوات محسوبة، فالعمق بالنسبة لتركيا ليس جغرافياً فحسب، بل نفسيّ وإعلامي أيضاً، ولهذا تسعى أنقرة إلى صناعة وجوهٍ عراقية تتحدث بلسانها وتدافع عن مصالحها وكأنها وطنية.

إن ما يجري شمال العراق هو عملية تبادل أدوار إقليمية، إيران منشغلة في معركة النفوذ السوري واللبناني، وأمريكا تُدير حضورها من الجو والرمز، فيما تملأ تركيا الأرض بـ”مكاتب التعاون” و”المدارس التركية” و”الاستثمارات العقارية”، وما يُسمّى بحماية الأمن القومي التركي هو في الحقيقة توسيع لنطاق التأثير عبر أدوات ناعمة لا تُرى بالعين المجردة، لكنها تُحدث أثرها في العقول والسياسات.

وحتى ملف المياه تحوّل إلى ورقة ابتزاز من نوعٍ جديد، فأنقرة تتحكم بمنابع الرافدين كما يتحكم المعلن بميزانية الإعلان، تقطع التدفق حين تشاء، وتفتحه حين تحتاج إلى صفقة، أما بغداد، فصوتها في هذا الملف يشبه صدى في نفقٍ طويل، لا يصل إلى الخارج إلا بعد أن يكون القرار قد اتُّخذ فعلاً في الداخل التركي.

والإعلام الموجَّه هو الآخر جزء من المسرح. قنوات ومواقع ومنصات تبث بالعربية، لكنها تكتب بالسياسة التركية، والغاية ليست نقل الخبر، بل إعادة تعريف “العدو” و”الحليف” في الوعي الجمعي العراقي، فتصبح إيران العدو الأخطر، وتركيا الشريك الحامي، وتُستبدل فكرة السيادة الوطنية بـ”الاستقرار الإقليمي” المزعوم.

ولكن الحقيقة أبسط وأكثر فجاجة، أنقرة لم تتغيّر، بل غيّرت أدواتها فقط، ومشروع “العمق العثماني” القديم يعود اليوم بلباسٍ حديث اسمه “مكافحة الإرهاب” و”التعاون الأمني”، وفي كل مرة يوقّع فيها مسؤولٌ عراقي على اتفاقٍ جديد، يكون قد سلّم قطعة أخرى من الجغرافيا أو السيادة دون أن يشعر، فالاحتلال الحديث لا يرفع علمه على الحدود، بل يزرعه في العقول، ويُذيبه في الخطاب الدبلوماسي الناعم، وتركيا اليوم تمارس احتلالاً من نوعٍ جديد، بلا دبابات، بلا خرائط، وبلا مقاومة تُدرك ما يجري فعلاً.

زر الذهاب إلى الأعلى