
أثار التوقيع على الآلية التنفيذية الخاصة باتفاقية التعاون المائي بين العراق وتركيا جدلاً واسعًا داخل الأوساط المختصة، حيث طُرحت تساؤلات عن طبيعة الاتفاق والبنود التي تضمنتها، وتأثيرها المحتمل على الأمن المائي في العراق، وفي الوقت الذي أكدت فيه الحكومة العراقية أن الاتفاق يصب في صالح البلاد، عدّه خبراء “استعمارًا مائيًا” جديدًا للعراق، حيث يمنح تركيا نفوذًا كبيرًا على موارده المائية.
وتمنح الاتفاقيتان الشركات التركية إمكانية الدخول بمشاريع حيوية في العراق، مثل إنشاء سدود صغيرة ومتوسطة، وتطوير تقنيات حصاد المياه، بالإضافة إلى تبطين الأنهار وتحويل مياه الأمطار إلى الأنهار، كما تشمل الاتفاقية تمويل هذه المشاريع من خلال مبيعات النفط العراقي.
ويقول الخبير المائي والبيئي رمضان حمزة، إن “الاتفاقية الموقعة بين العراق وتركيا تمثل تفريطًا كاملًا في حقوق العراق المائية، وشرخًا كبيرًا في سيادته التي أصبحت رهينة لمشاريع تركيا التنموية، حيث أصبحت المياه العراقية جزءًا من حوض الفرات التركي”.
ويصف حمزة، الاتفاقية بأنها “استعمار مائي خطير، وأن العراق سيواجه تبعات هذه الاتفاقية على المدى الطويل” مشيرًا إلى أن “تركيا ستحصل على جميع المعطيات المتعلقة بالأرض والموارد العراقية، بما فيها المعلومات الديموغرافية، ما يعزز سيطرتها على الأمن المائي والغذائي”.
ويشير إلى أن “هذه الاتفاقية ليست مكسبًا للعراق كما تروج لها الحكومة، بل هي نكسة حقيقية ستجعل العراق جزءًا من سياسة تركيا الاقتصادية والعسكرية، بحيث ستستثمر الشركات التركية في العراق بشكل كبير، وستحصل على مبالغ ضخمة مقابل مشاريع بسيطة لا تحتاج إلى عبقرية”.
في المقابل، أوضح المتحدث باسم الحكومة باسم العوادي، أن “الاتفاق الموقع هو آلية لتنفيذ اتفاقين سابقين؛ الأول هو اتفاق تفاهم تم توقيعه عام 2014 مع تركيا حول المياه، والثاني هو الاتفاقية الإطارية التي تم توقيعها خلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى بغداد في 2024”.
وأكد العوادي، أن “الاتفاق لا يتضمن تنازلاً عن ديون العراق لتركيا، بل يركز على كيفية تنفيذ المشاريع التي تندرج ضمن الاتفاقيتين وتمويلها وهي تشمل إنشاء سدود صغيرة ومتوسطة، تبطين الأنهار، وتحويل مياه الأمطار إلى الأنهار”، لافتاً إلى أن “الحكومة التركية لديها تجربة ناجحة في إدارة المياه، وأن هذه التجربة لا يمكن الاستغناء عنها، إذ ستحدد اللجان الاستشارية المشتركة بين البلدين المشاريع التي يحتاجها العراق في كل منطقة، ما سيسهم في توفير حلول مستدامة لإدارة المياه في البلاد”.
وبالرغم من التوقيع على الآلية التنفيذية، إلا أن مواقع المشاريع المقررة أو مواعيد تنفيذها، لم تتضح لغاية الآن، بالإضافة إلى الشركات التركية التي ستتولى تنفيذ هذه المشاريع، ومع ذلك، نصت الاتفاقية على أن تمويل المشاريع سيكون من أموال النفط العراقي، إذ من المتوقع أن يتطلب الأمر تمويلًا ضخمًا، خاصة مع تنوع المشاريع التي تشمل إنشاء سدود صغيرة ومتوسطة، وتبطين الأنهار، وتحويل مياه الأمطار إلى الأنهار، وهي مشاريع تتطلب تقنيات عالية ومدة زمنية طويلة للإنجاز.
بدوره، يحذر عضو لجنة الزراعة والمياه والاهوار، ثائر مخيف، من “تبعات الاتفاقية المائية المبرمة بين العراق وتركيا، مؤكدًا أن الاتفاقية الحالية لا تقدم حلاً كافيًا لأزمة المياه في البلاد، باعتبار أن كمية المياه المعلن إطلاقها، البالغة مليار متر مكعب، لا تسمن ولا تغني من جوع، وأن الدفعات المائية القادمة قد تحرك المياه الآسنة في الأنهار فقط، ولا تعالج الأزمة”.
ويؤكد أن “الاتفاقية أُعدت دون إشراك البرلمان ووزارة الموارد المائية أو اطلاع الشعب العراقي على بنودها، ما يستدعي عقد جلسة طارئة للبرلمان بهدف مناقشتها لضمان الشفافية وحماية مصالح البلاد”، منوهاً إلى أن “الإشراف التركي على إدارة الملف المائي لمدة خمس سنوات ليس جديداً، وتركيا تسعى لهذا الأمر منذ سنوات طويلة”.
ويصف ما جرى بأن “أخطر ما في الاتفاقية، هو أنها تسمح لأنقرة باستثمار مياه العراق بدلًا من أن تكون ملكًا للعراقيين”.
وتبقى آلية التمويل إحدى النقاط الحساسة التي تثير القلق بين الخبراء والمختصين، إذ نصت الاتفاقية على أن تمويل المشاريع سيكون من خلال مبيعات النفط العراقي، ما يثير تساؤلات حول مدى استدامة هذه الآلية في ضوء التقلبات الاقتصادية وأسعار النفط، ورغم تأكيدات الحكومة العراقية على أن هذا التمويل سيعزز التعاون بين البلدين، إلا أن مخاوف أثيرت من اعتماد العراق بشكل مفرط على هذه الطريقة، ما قد يعرّضه لمخاطر اقتصادية في حال حدوث تراجع في أسعار النفط أو تغيرات في السوق العالمية.
وبالرغم من أن الحكومة العراقية أصدرت بند التمويل عبر مبيعات النفط على أنه إنجاز لا يؤثر على الخزينة العراقية، إلا أن الواقع لا يختلف كثيرًا -وفق خبراء- سواء تم تمويل المشاريع عبر مبيعات النفط أو من الموازنة، فإن المصدر الأساسي للمبالغ يبقى هو النفط، وفي الحالتين، سيظل العراق معتمداً على موارده النفطية لتمويل المشاريع.
من جهته، يبدي الخبير المائي مخلد عبدلله، تحفظه على الاتفاق بسبب “افتقاره للمواصفات الأساسية للاتفاقات المائية، مثل تحديد الحصص النسبية للمياه خلال السنوات المائية المختلفة: المتوسطة، الجدباء، والرطبة، خاصة وأن الحديث عن تأثير التغيرات المناخية في نقص المياه هو حديث غير منصف، في ظل وجود كميات ضخمة من المياه المخزنة في السدود التركية والتي تستغل في الزراعة الصيفية في تركيا، بينما يعاني الفلاح العراقي من حرمانه من الزراعة الصيفية والشتوية”.
ويؤكد عبدالله، أن “الاتفاق يضمن امتيازات كبيرة للجانب التركي، ويمنح شركاته الفرصة للاستثمار في مشاريع مائية، كما أن حصاد المياه في الاتفاق يشمل منطقة الصحراء الغربية فقط، ولا يساهم في توفير المياه للمناطق التي تعاني من الشح المائي في السهل الرسوبي”، لافتًا إلى أن “السدود الصغيرة المقترحة لن تكون قادرة على معالجة أزمة المياه في المناطق الزراعية المروية حالياً، بل ستعمل على تعزيز الخزن الجوفي في الصحراء الغربية، وهو حل غير كافٍ لمعالجة الشح المائي”.
ولا يستبعد خبراء أن تكون الاتفاقيتان ورقة ضغط على العراق في ملفات حساسة مثل ملف حزب العمال الكردستاني، وجود القوات التركية على الأراضي العراقية، والجوانب الاقتصادية.
في هذا السياق، يُعتقد أن تركيا قد تسعى لاستخدام الاتفاقية كأداة لتوسيع نفوذها في العراق، خاصة في ظل مساعيها لرفع التبادل التجاري مع العراق إلى نحو 30 مليار دولار سنويًا، ما يجعل العراق في موقف صعب، حيث يُمكن أن تكون المياه والموارد الطبيعية العراقية عرضة للمساومة في مقابل مصالح اقتصادية أخرى، ما يعزز الضغط التركي على بغداد في العديد من الملفات الشائكة.



