مقالات

من رماد الحروب إلى النهوض.. هنا بغداد

د. خالد قنديل

في كتابه “مشروع للسلام الدائم” يرى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أن الحرب ما هي إلا الشر المطلَق الذي يجب تجنبه، مؤكداً أن آثارها ليست في الخسائر البشرية ولا تقتصر على تدمير الممتلكات فحسب، لكن هناك تدميراً للثقة الأخلاقية، حيث تكسر الحرب أسس الثقة المتبادلة بين الدول وتزرع بذور العداوة المستقبلية، الأمر الذي يجعل جهود السلام اللاحقة غير مستدامة وصعبة.

وكذلك شدَد مارتن لوثر كينج على أن الحرب تمثل العائق الأكبر أمام العدالة الاجتماعية وتفاقِم الفقر والاستغلال، وأن الانتصارات المتحقَقة بالعنف مؤقتة، ولا تجلب مصالحة حقيقية بين الأطراف أو سلاماً دائماً. أما الكاتب الصحفي والمراسل العسكري الأمريكي كريس هيدجيز، الذي يتفق على أن أهداف الصهيونية إبادة الشعب الفلسطيني والاستيلاء على كامل فلسطين، فيؤكد في كتابه “الحرب.. حقيقتها وآثارها”، أن الحروب تولد ثقافة خاصة تسود على الثقافات كافة، ويبرز فيها تقديس الذات والبحث عن أسطورة الحرب الكاذبة، التي تضفي معنى بطولياً على القتل المنظَم، الأمر الذي يمنع الشعوب من ممارسة النقد الذاتي والتعاطف. بينما يؤكد الأديب والشاعر اللبناني ميخائيل نعيمة، أن نيران الحرب لا تستعر فقط في أجواف المدافع، لكنها تتقد في أفكار الناس وقلوبهم، ومن ثم لابد من عملية تطهير للأفكار من العدوانية والكراهية.

في ضوء هذه الرؤى يمكن النظر إلى التجربة العراقية بوصفها تدريباً إنسانياً على التعافي والبناء. وقد شهد العراق خلال العقود الأخيرة تنوعاً في خوض الحروب، عبر سلسلة من الأحداث العنيفة المتتابعة، بدءاً من الحرب مع إيران خلال الثمانينيات من القرن الماضي، في الفترة (1980–1988)، مروراً بغزو الكويت عام 1990، والحصار الاقتصادي الطويل، ثم الغزو الأمريكي في العام 2003 وما تبعه من صراعات طائفية وتنظيمات إرهابية وحروب داخلية.

تلك الأحداث والحروب بطبيعة الحال خلفت ندوباً عميقة في نفوس العراقيين وفي الوعي الجمعي العراقي، لأن الأمر لم يكن مقتصراً على مجرد المواجهة العسكرية والسياسية، لكنه كوَن نوعاً آخر من المواجهات والصراع، وهو الصراع مع فكرة فقد الحياة، لا بمعنى الموت ولكن بمعنى مظاهر الحياة الإنسانية الطبيعية الآمنة المتطلعة إلى السلام النفسي للأجيال والاستقرار، ولأن أجيالاً متوالية عاشت هذه الحروب والصراعات وويلاتها، فقد صار الخطر إحساساً ملازماً للمواطن العراقي وجزءاً من حياته اليومية، أي أنه كان في حالة ترقُب وقلق دائمَين وهو ما انسحب كإحساس مزمن بين الأطفال والشباب، فضلاً عن مساوئ اعتياد مشاهد الدم والدمار، ومن ثم اعتياد هذه المشاهد كوسائل وحيدة لحل الخلافات، وكذلك بروز أزمات أخرى مثل التجمُد الفكري النابع من الفقد والتهجير، والذي بدوره أسهَم في خلق حالة من الانفصال النفسي عن الماضي والهُوية الوطنية، باتجاه فقدان الثقة بالمؤسسات والآخر، ولصالح الطائفية والسياسات الإقصائية التي عمَقت بعد عام 2003 الانقسام بين المكونات الدينية والعرقية، حتى أصبح الانتماء الطائفي أو العشائري أحياناً أهم من الهُوية الوطنية الجمعية.

من هنا يمكن رؤية المجتمع العراقي مجدَداً بنظرة مغايرة، وتأمُل مجتمع يسعى بجهد للاستفادة من الدروس التي فُرضت عليه، يعيش بين إرث الصدمة وحلم التعافي. فبالرغم من التوقف الظاهري للحروب، فإن الآثار النفسية لها، قد تكون فاعلة بطريقة أو بأخرى، وبقيت بعض الشوائب في ملامح العلاقات بين المكونات المجتمعية وتعدديتها (سُنَة، شيعة، أكراد، أقليات).

فهل نستطيع القول إن الدولة العراقية بمفهوم الدولة ذات الامتداد الحضاري والتاريخي البعيد، وذات الثقل والأبعاد السياسية والتأثير في محيطيها الإقليمي والعالمي، استطاعت أن تتحرك في الاتجاه القويم والسليم، لرأب الصدوع الناشئة عن تلك الصراعات وما خلَفَته من صورة مضطربة للذات الوطنية التي تأثرت بفترات الاحتلال والانقسام السياسي، ومن تشوُه إدراكي في فهم الانتماء الحقيقي هل للدين والمذهب أم للوطن؟ الإجابة بكل بساطة: نعم استطاع العراق أخيرًا ـ مستفيداً من التجربة والتكوين الحضاري ـ أن يمضي قُدُماً في هذا الاتجاه المنطقي والضروري، ومثلما استفاد الإنسان من سُم الأفعى كترياق ضد السموم، فإن الذاكرة المشتركة للمعاناة لدى العراقيين، كان ممكناً أن تكون أساساً للتقارب، حيث تحويلها إلى “ذاكرة شفاء” ونبذ للكراهية والخلاف وتسامياً مع الاختلاف، كخطوة أولى ومرحلة أساس في مراحل الشفاء واستعادة الثقة والقدرات الحقيقية والمتوقعة والمنتظرة.

وبالرغم من أن معالجة الأضرار النفسية الناتجة عن الحروب المتتالية تتطلب استراتيجيات طويلة الأمد ومتعددة الأبعاد، تعيد بناء الثقة وتغير أنماط التفكير وترمِم الصدمات الفردية، عبر فهم أولاً التشوهات التي تسببها الحروب والصراعات في تشكيل سُلم الاحتياجات النفسية والعقلية لإنسان من المفروض أن يتعايش بوجود الآخر، الإنسان النفسي، لتنقُله من الأهداف العليا مثل النمو الذاتي والازدهار، إلى الحاجات الغريزية للبقاء والأمان، فإن المشهد العراقي الآن استطاع أن يختصر الزمن والمراحل في عمل وطني وجمعي شامل الأبعاد كافة، التي من شأنها إعادة التوازن والحضور والفعالية للمواطن العراقي، عبر سياسات قويمة ومتوازية كانت بمثابة العلاج النفسي والاجتماعي الفارق في الثقافة الجمعية والعمل الوطني المشترك، مع تفكيك جميع السرديات المزيفة التي تجرِد الآخر من إنسانيته، ووضع برامج بناء السلام التي تعمل على إعادة صياغة السرد التاريخي لروايات العنف إلى روايات العدالة والمصالحة، والتطلع بزهو وعقل صحيح ونفس مطمئنة إلى الغد الذي يتسع للوطن في المقام الأول، وهو ما يمكن تسميته نمو ما بعد الصدمة، بالانخراط المدني الحر المدفوع بذات وطنية، نحو بناء الوطن بقناعات جديدة، وبناء رؤية جديدة للعالم تُدمِج الألم في سياق من السعي نحو السلام والمستقبل الأفضل.

ولعل الواقع الآني يشير إلى تلك النتائج الإيجابية في هذه التجربة التي تُعد بمثابة المدرسة الحياتية الفارقة في تاريخ العراق. فبعد أكثر من عقدَين من كل الأزمات التي مرَت على العراق ومن بعد تحوُله في تلك الأزمان الغابرة إلى ساحة لصراعات إقليمية ودولية وداخلية، نشهد اليوم تجربة جديدة في المسار الديمقراطي والوطني وفي مسيرة البناء القويم الذي وضع أسسه المتينة المسئول الوطني النابه ورجل الدولة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني ورفاقه الذي حملوا على عاتقهم هذا الهم الجميل والإصرار على لم الشمل والاحتواء والدفع براية العراق إلى أسمى الأجواء.

وقد تحركوا في جميع مسارات البناء بإخلاص وجِد وجهد جهيد ووطنية حَقة، متصدَين بقوة لجميع الملفات التي من شأنها تكوين ملامح الوطن في سياق مقبول ومستحَق وفق تاريخه، وصولاً إلى مشهد العُرس الانتخابي، الذي انطلق أمس للانتخابات البرلمانية العراقية، والتي يُعد نجاح الحكومة في إجرائها وفق الخطة الموضوعة لها، وفي موعدها الدستوري حدثاً فارقاً ومُهماً بالطبع في مفهوم الدولة، ولتأتي هذه الانتخابات أيضاً كثمرة من ثمرات المسار الديمقراطي لوطن يتمسك بالتداول السلمي للسلطة، بل وتضفي أهمية استثنائية على المستويين المحلي والإقليمي والدولي في ظل عالم يموج بتوترات وصراعات جيوسياسية، قد لا يكون العراق بمَنأى عنها، ومن ثم كانت تلك الشجرة الوارفة من عراق ضَمَد الجراح القديمة واستفاد منها وتسامى فوقها، ومواطن عراقي مُدرِك لكينونته وتعدُده ومُستوعِباً لفكرة الوطن.

زر الذهاب إلى الأعلى