الخروقات الدستورية والقانونية في النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية رقم (١) لسنة ٢٠٢٢
عصام الشاوي

النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية هو لائحة تنظيمية تصدرها المحكمة ذاتها، إستنادًا إلى المادة (٩) من قانون المحكمة الاتحادية رقم (٣٠) لسنة ٢٠٠٥ المعدّل، لتحديد القواعد والإجراءات الإدارية والعملية التي تُنظّم سير العمل داخلها، وتنظم كيفية تقديم الطلبات والدعاوى، وإجراءات الترافع، وآلية تبليغ الخصوم، بما يُسهّل تنفيذ أحكام قانون المحكمة.
وقد نصّت المادة (٩) من قانون المحكمة الاتحادية رقم (٣٠) لسنة ٢٠٠٥ المعدّل على ((تصدر المحكمة الاتحادية نظاماً داخلياً تحدد فيه الإجراءات التي تنظم سير العمل في المحكمة وكيفية قبول الطلبات وإجراءات الترافع وما يسهل تنفيذ أحكام هذا القانون، وينشر هذا النظام في الجريدة الرسمية)).
وبموجب هذا النص، يكون المشرّع قد خوّل المحكمة إصدار نظام داخلي لأغراض تنظيمية بحتة، تقتصر على الشؤون الإجرائية الداخلية التي تضمن حسن سير العمل القضائي فيها. وهو تفويض لا يجوز بموجبه للمحكمة أن تضع نصوصاً تنشئ صلاحيات جديدة، أو أن تخالف الدستور أو القوانين النافذة، أو أن تتدخّل في اختصاصات سلطات أخرى، أو أن تقرّر ما لا يجوز لها أن تقرّره بموجب الدستور أو القانون. وقد التزمت المحكمة بهذا الإطار طوال الفترة من سنة ٢٠٠٥ وحتى سنة ٢٠٢٢، حيث تعمل بالنظام الداخلي رقم (١) لسنة ٢٠٠٥، وهو مستقرّ ومتّزن، لم يتضّمن أي خرق دستوري أو قانوني، وشكّل نموذجًا للامتثال لمبدأ التدرّج التشريعي وفصل السلطات. غير أنّ هذا النظام الرصين تم إلغاؤه بقرار إرتجالي من رئيس المحكمة السابق جاسم العميري في سنة ٢٠٢٢، ليحلّ محله النظام الداخلي رقم (١) لسنة ٢٠٢٢، فجاء محمّلًا بخروقات جسيمة، تجاوزت طبيعة الأنظمة الداخلية، وحوّلته من لائحة تنظيمية إلى وثيقة ذات طابع تشريعي اعتدائي، فيها تعدٍّ على الاختصاصات، وانحراف عن جوهر الدستور، وخرق مباشر لقوانين نافذة، كما يأتي تفصيلًا:
اولًا – المادة (٣٩): ممارسة القضاء الولائي خلافًا لاختصاص المحكمة الاتحادية
نصّت المادة على ((للمحكمة النظر في طلبات القضاء المستعجل والأوامر على عرائض، وفقًا للأحكام المنصوص عليها في قانون المرافعات المدنية رقم (٨٣) لسنة ١٩٦٩ المعدل، أو أي قانون آخر يحلّ محلّه)).
هذا النصّ يخالف طبيعة المحكمة الاتحادية، إذ منحها اختصاص القضاء الولائي، وهو اختصاص لا يدخل ضمن اختصاصاتها التي حددها الدستور، وإنما يبقى منعقدًا للقضاء العادي، وفق ولايته العامة والنصوص القانونية المنصوص عليها في قانون المرافعات المدنية رقم (٨٣) لسنة ١٩٦٩ المعدّل. فالمواد (١٥١ و١٥٢ و١٥٣) من القانون المذكور تعرّف القضاء الولائي بأنه إجراء وقتي وتحفظي يصدر على عريضة أحد الأطراف، لا يمسّ أصل الحق، وتُجيز الطعن فيه بالتظلّم، ثم تمييز القرار الصادر بعد التظلّم، ولا تُعدّ باتّة بأي حال بموجب المادة (
وهنا تظهر المفارقة الدستورية الخطيرة (إذا كانت قرارات المحكمة الاتحادية باتّة وملزمة بموجب المادة (٩٤) من الدستور، فكيف يصدر عنها قرار كــ”الأمر الولائي” يكون قابلًا للتظلّم والتمييز؟!). هذا التناقض يكشف بوضوح أن المحكمة مارست اختصاصًا لا تملكه، واستعارت أداة قانونية مخصصة للقضاء العادي، بما يخالف طبيعتها الدستورية. كما لا يجوز انتقاء بعض أحكام قانون المرافعات المدنية وترك بعضها الآخر؛ فالمحكمة تستند إلى المادتين (١٥١ و١٥٢) لإصدار الأمر الولائي، لكنها تتجاهل المادة (١٥٣) التي تُجيز التظلّم من القرار، وتغضّ الطرف عن المادة (٢١٦) التي تَمنح المتضرر الحق في تمييزه. وهذه الانتقائية في التطبيق تُعدّ مخالفة لمبدأ وحدة المنظومة القانونية.
ثانيًا – المادة (١٨/خامساً): إنشاء صلاحية طعن غير دستورية
نصّت المادة على ((يخضع قرار محكمة الموضوع برفض الدعوى، أو عدم البت فيها، للطعن أمام المحكمة الاتحادية، خلال سبعة أيام من تاريخ رفضه أو انتهاء المدة المحددة في البند ثالثاً من هذه المادة)).
وهذا النص يشكّل خروجًا فاضحًا عن القواعد العامة للاختصاص القضائي، إذ منح المحكمة الاتحادية صلاحية الطعن في قرارات تصدرها محاكم الموضوع بشأن قبول أو رفض دعاوى الطعن بعدم الدستورية، وهي صلاحية غير واردة لا في الدستور ولا في قانون المحكمة ولا في أي قانون نافذ آخر، بل إنها تتعارض تمامًا مع قانون المرافعات المدنية رقم (٨٣) لسنة ١٩٦٩، وقانون التنظيم القضائي رقم (١٦٠) لسنة ١٩٧٩، اللذين حدّدا طرق الطعن واختصاصات محكمة التمييز الاتحادية أو محاكم الاستئناف بصفتها التمييزية أو محاكم الجنايات بصفتها التمييزية، دون أن تندرج المحكمة الاتحادية ضمن جهات الطعن. وقد تصدّت محكمة التمييز الاتحادية لهذا التجاوز، وأبطلت هذا النص ضمنيًا، في قرارها المرقم (٢٣٨٩/استئنافية عقار/٢٠٢٥) الصادر بتاريخ 6/4/2025، وقرّرت أن المادة (١٨/خامساً) تخالف النصوص القانونية التي تعقد الاختصاص لمحاكم أخرى دون المحكمة الاتحادية، مما يجعلها نصًّا فاقدًا للشرعية.
ثالثًا – المادة (٢١/ثالثاً): مخالفة صريحة لقواعد المرافعة الحضورية
نصّت المادة على ((بعد ورود إجابة المدعى عليه إلى المحكمة، أو انتهاء المدّة المحددة للإجابة، أو قبل انتهائها في الحالات المستعجلة وحسب تقدير رئيسها، يُزوَّد رئيس المحكمة وأعضاؤها بنسخ من الدعوى مع كامل مرفقاتها، وتقوم المحكمة بتعيين موعد للنظر فيها دون مرافعة، إلّا إذا رأت المحكمة ضرورة لإجراء المرافعة فيها بحضور الأطراف، ولها أن تستدعي من ترى ضرورة للاستيضاح منه، أو أن تطلب منه إجابتها تحريرياً من دون حضوره، ويُثبَت ذلك في المحضر)).
وهو نص مخالف لمبادئ المحاكمة العادلة وضمانات الدفاع، ويتعارض مع المادة (١٩/رابعًا) من الدستور التي نصت على ((حقّ الدفاع مقدّس ومكفول في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة)). فضلًا عن أنّ قانون المرافعات المدنية، الذي يعتبر المرافعة الحضورية من النظام العام، لاسيما المواد (44/1، 46/3، 48/2، 58/1، ٦٠)، والتي أوجبت سماع الخصوم وإجراء مرافعة علنية باعتبارها من الحقوق القضائية الجوهرية التي لا يجوز تفويتها او استبعادها إلا بموجب نص تشريعي صريح. وقد أكّدت محكمة التمييز الاتحادية هذه المبادئ في قرارها المرقم (١٥٥/الهيئة الموسعة المدنية/٢٠٢٥) في 25/5/2025، وعدّت نظر الدعوى دون مرافعة إخلالًا بضمانات الخصوم، وانتهاكًا للنظام القضائي.
رابعًا – المادة (٤٥): إباحة العدول خارج الضوابط القانونية
نصّت المادة على ((للمحكمة عند الضرورة، وكلما اقتضت المصلحة الدستورية والعامة، أن تعدل عن مبدأ سابق أقرّته في إحدى قراراتها، على أن لا يمس ذلك استقرار المراكز القانونية والحقوق المكتسبة)).
استنادًا إلى هذا النص، أصدرت المحكمة حكمها في الدعويين الموحدتين (١٠٥/موحدتها ١٩٤/اتحادية/٢٠٢٣) في 4/9/2023، وقضت بعدم دستورية القانون رقم (٤٢) لسنة ٢٠١٣ المتعلق باتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله، وعدلت عن حكمها السابق “البات والملزم” الصادر في الدعوى (٢١/اتحادية/٢٠١٤)، الذي سبق أن قضى بدستورية الاتفاقية. لكن هذا السلوك يُعدّ مخالفة صريحة لقواعد العدول القضائي المقررة في المادة (١٣/أولاً/١) من قانون التنظيم القضائي، والتي حصرها بالهيئة العامة لمحكمة التمييز الاتحادية، واشترطت أن يكون العدول عن “مبدأ” لا عن “حكم”، وأن يتم بناء على إحالة من هيئة تمييزية، ويُعلّل بالحاجة الملحة، دون المساس بالمراكز القانونية. إلّا أنّ المحكمة الاتحادية مارست صلاحية غير ممنوحة لها، وعدلت عن حكم باتٍّ نافذ باسم “العـدول”، مما يشكّل خرقًا لحجّيّة الأحكام النهائية المقرّرة في المادة (١٠٥) من قانون الإثبات، وأحدثت اضطرابًا قانونيًا ودبلوماسيًا جسيمًا.
خامسًا – المادة (٤٦): التوسع في التصدي خارج نطاق الدعوى
نصت المادة على ((للمحكمة عند النظر في الطعن بعدم دستورية نص تشريعي، أن تتصدى لعدم دستورية أي نص تشريعي آخر يتعلق بالنص المطعون فيه)).
وهو نص يُضفي للمحكمة صلاحية إصدار أحكام خارج حدود الطعن، أي دون أن يطلب الخصم أو المدّعي الحكم بها، ويحوّل المحكمة إلى جهة تشريعية مُلغية للنصوص تحت ستار الرقابة الدستورية، من دون وجود خصومة أو مصلحة حقيقية أو سند طعن. هذا النص يخالف مبدأ الحياد القضائي، ومبدأ “لا دعوى بلا مصلحة”، وينسف القواعد الجوهرية التي يقوم عليها النظام القضائي، كما أنه يشكّل تغوّلًا على السلطة التشريعية المنتخبة من الشعب ويهدد استقرار التشريعات.
سادسًا – المادة (٢٧): تجاوز على الدستور بتنظيم محاسبة رئيس الجمهورية
نظّمت هذه المادة الإجراءات التفصيلية المتعلقة بتلقّي طلبات الاتهام الموجّهة إلى رئيس الجمهورية والفصل فيها، رغم أنّ الدستور نصّ في المادة (٩٣/سادساً) على ((النظر في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء، والوزراء، وتنظيم ذلك بقانون)).
وبالتالي، فإن المحكمة الاتحادية عبر هذه المادة تجاوزت النص الدستوري، حين قرّرت تنظيم إجراءات لم تُنظَّم بقانون، وتجاهلت أن اختصاصها في هذا الشأن لا يُمارَس إلّا بعد صدور قانون خاص بذلك من مجلس النواب، وهو ما لم يحصل حتى تاريخ إصدار النظام.
سابعًا – المادة (١٨/أولاً): فرض وصاية على محاكم الموضوع
نصّت المادة على ((لأي محكمة، من تلقاء نفسها، أن تطلب في أثناء نظر الدعوى البتّ في دستورية نص في قانون أو نظام يتعلق بتلك الدعوى، ولعضو الادعاء العام أمام تلك المحكمة أن يطلب ذلك، وعلى المحكمة استئخار الدعوى الأصلية، ويُرسل الطلب إلى المحكمة الاتحادية بواسطة كتاب موقّع من رئيس محكمة الاستئناف التي تتبعها تلك المحكمة، أو من دائرة المستشار القانوني في وزارتي الدفاع أو الداخلية بالنسبة للدعاوى المنظورة أمام المحاكم العسكرية ومحاكم قوى الأمن الداخلي، خلال عشرة أيام من تاريخ صدور قرار الاستئخار)).
منحت هذه المادة المحكمة الاتحادية صلاحية فرض الاستئخار على محاكم أخرى، وحددت الجهة المرسلة للطلب، ومهلة إرساله، وهو تدخل فجّ في السلطة التقديرية لمحاكم الموضوع التي أعطاها قانون المرافعات حق الاستئخار (المادة ٨٣)، ولم يمنح المحكمة الاتحادية هذا الحق لا تصريحًا ولا تلميحًا. والأدهى من ذلك، أن المحكمة اشترطت توقيع رئيس الاستئناف أو الجهات القانونية في الوزارات الأمنية على الإحالة، بما يُنذر بتحويل الإجراء القضائي إلى إجراء إداري بيروقراطي لا يتسق مع طبيعة القضاء الدستوري.
ثامنًا – المادتان (١) و(٢): تكرار مفرغ وغير مبرر
جاء في المادة (١)تعريف المحكمة، وفي المادة (٢) بيان اختصاصاتها، وهي نصوص مكررة من الدستور وقانون المحكمة ذاته، ولا تُضيف أي طابع تنظيمي. إدراجها لا يمثل إلا “حشوًا لغويًا” يدل على ضعف الصياغة وخلو النظام الداخلي من الرؤية القانونية الدقيقة.
يتبيّن من النقاط أعلاه إنّ النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية رقم (١) لسنة ٢٠٢٢، لا يُعد مجرد وثيقة إدارية تنظيمية، بل هو وثيقة مشوّهة، اعتدت على المبادئ الأساسية للدستور، وخرقت القوانين النافذة، وخلقت سابقة خطيرة في تحويل النظام الداخلي إلى “تشريع بديل” يُعيد توزيع الاختصاصات، ويمنح المحكمة صلاحيات ليست لها، ويقصي سلطات الدولة الأخرى. هذا النظام يعكس نهجًا قضائيًا متغطرسًا تم تصنيعه في ظل رئاسة فردية توسّعية، لم ترَ في المحكمة سوى وسيلة للهيمنة على القرار الدستوري والقانوني في البلاد. وإنّ القضاء الدستوري حين يُستغلّ، يتحول من ضامن للحقوق إلى خصمٍ لها. واليوم، وبعد تولّي رئاسة جديد للمحكمة الاتحادية، فإنّ من الواجب الدستوري والمؤسسي أن تُبادر المحكمة إلى إلغاء النظام الداخلي رقم (١) لسنة ٢٠٢٢، والعودة إلى النظام الداخلي رقم (١) لسنة ٢٠٠٥، لما يتّسم به من انسجام مع الدستور والقوانين، واحترامٍ لحدود الاختصاص، ومبادئ الفصل بين السلطات.