مقالات

آلية الزناد : كيف تحولت العقوبات إلى حسنات في التجربة الإيرانية

سلام عادل

حين ننظر إلى هذه التجربة من زاوية عراقية، نجد أن الحصار – الذي يُسوّق عادة كأداة للتجويع والتدمير – يمكن أن يكون مدرسة سيادية لتعلّم الاعتماد على الذات

منذ إعلان القوى الغربية عن تفعيل ما يُعرف بـ”آلية الزناد”، التي تعني عملياً إعادة إنتاج العقوبات المفترض رفعها منذ توقيع الاتفاق النووي عام 2015، عاد الحديث مجدداً عن قدرة إيران على الصمود والمناورة في مواجهة الضغوط، ولكن القراءة الموضوعية لتجربة الجمهورية الإسلامية منذ انتصار الثورة عام 1979 وحتى اليوم، تكشف أن كل جولة من العقوبات لم تكن سوى خطوة إضافية في تعزيز استقلال الاقتصاد الإيراني، وتحويل التهديدات إلى مكاسب، لتصبح العقوبات – بشكل مفارق – جزءاً من صناعة المناعة الوطنية.

وقبل الثورة الإسلامية، كانت إيران أشبه بدولة نفطية تابعة؛ 90% من دخلها القومي كان يعتمد على عوائد النفط الخام، وهذا النموذج جعلها عرضة للهزات الخارجية وخاضعة لإرادة القوى الغربية، التي تسيطر على أسواق الطاقة، لكن مع مجيء الإمام الخميني وقيادته للثورة، اتُّخذت قرارات استراتيجية لتقليص الاعتماد على النفط في سنواته الأولى، جرى تخفيض الاعتماد بنسبة 15%، عبر تشجيع الزراعة والصناعة المحلية، ومن ثم جاء عهد السيد علي الخامنئي، ليتمكن خلال ثلاثة عقود من خفض الاعتماد الكلي إلى حدود 25% فقط، وهذا يعني أن الاقتصاد الإيراني بدأ يتنفس بعيداً عن رئة النفط، في وقت بقيت معظم دول المنطقة أسيرة مورد واحد.

ومن أبرز ثمار الحصار أن إيران وجدت نفسها مجبرة على كسر النموذج الريعي التقليدي، فبدلاً من بيع برميل النفط الخام بسعر 70 دولاراً، اتجهت إلى تطوير الصناعات البتروكيمياوية والمشتقات النفطية، ما جعل القيمة تصل أحياناً إلى ألف دولار للبرميل الواحد، وهنا لم يعد النفط مجرد مادة خام، بل مادة أولية لإنتاج صناعات مربحة ومتنوعة، وهذه النقلة لم تكن ممكنة لولا سياسات الضغط، التي دفعت إيران إلى تسريع مشاريعها الصناعية بدل الركون إلى الراحة السهلة للريع.

ولا ينسى الإيرانيون أن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما هدّد مراراً بفرض ما سماه “حصار البانزين”، انطلاقاً من فرضية أن إيران لا تملك القدرة على إنتاج حاجتها المحلية من الوقود، وأنها تعتمد على الاستيراد الخارجي، ولكن ما حدث كان عكس ذلك تماماً: خلال فترة قصيرة، نجحت طهران في مضاعفة إنتاج البنزين عبر مصافيها الداخلية، حتى غدت مصدراً للتصدير، وعندها تحوّل التهديد إلى محفّز، والفشل الأميركي إلى شهادة على مرونة الدولة الإيرانية.

وثمة مكسب استراتيجي آخر فرضته العقوبات، وهو تعزيز التحالفات الدولية لإيران، فبينما كانت العلاقة مع روسيا والصين قبل سنوات تتسم بالشكوك المتبادلة، جاءت سياسات الضغط الأميركي – الأوروبي لتمنح هذه العلاقة دفعاً غير مسبوق، حيث تحولت بكين وموسكو إلى داعمين صريحين لإيران في مجلس الأمن، وإلى شركاء اقتصاديين كبار في مشاريع الطاقة والبنى التحتية، فقد دفعت الضغوط الغربية إيران أكثر فأكثر إلى الشرق، لتجد نفسها في قلب محور دولي صاعد يرفض الهيمنة الأميركية.

ولم تقتصر انعكاسات الحصار على الخارج، بل امتدت إلى الداخل الإيراني، فالطبقة السياسية، التي انقسمت طويلاً بين تيارين إصلاحي ومحافظ، بدأت تقترب من بعضها البعض حول قناعة مشتركة: الغرب لا يريد لإيران خيراً، ولا جدوى من المراهنة على التفاهمات معه، وهذا التحول عزز موقع المرشد الأعلى، وأكسبه دعماً إضافياً حتى من الأوساط التي كانت تميل في الماضي إلى التسوية مع الغرب، ومن هنا، فإن العقوبات لم تضعف التماسك الداخلي بل زادته صلابة.

والعراق، الذي يعتمد في موازنته اليوم على 95% من النفط، يمكنه أن يقرأ الدرس الإيراني جيداً: بناء اقتصاد وطني متنوع، صناعة تحويلية، زراعة قوية، وتكنولوجيا متقدمة، وبدل أن يكون الحصار تهديداً للبقاء، يمكن أن يكون فرصة للانعتاق من التبعية، وصناعة بلد محترم وقوي.

وما يميز إيران ليس أنها واجهت العقوبات بالعناد فقط، بل إنها حوّلت هذا العناد إلى مشاريع ملموسة: مصانع، جامعات، صناعات دوائية، قدرات نووية، برامج فضائية، وتكنولوجيا دفاعية متقدمة، والغرب حين أراد خنقها وجد نفسه يواجه قوة صاعدة، العقوبات كانت سلاحاً لإضعافها، فإذا بها تتحول إلى محفّز لتفجير الطاقات الكامنة.

ولهذا تُعد آلية الزناد، التي تباهى الغرب بإطلاقها، ليست سوى فصل جديد في مسلسل طويل، أثبت أن إيران كلما ضُغطت أكثر خرجت أكثر قوة، وهذه المفارقة تستحق أن تُقرأ بعمق لا بسطحية؛ فالحصار لم يكن لعنة على الإيرانيين، بل سلسلة حسنات صاغت دولة ذات سيادة، ومن هنا، فإن العراقيين مدعوون لقراءة هذه التجربة بعيون جديدة: حيث كيف يمكن تحويل الأزمات إلى فرص؟ كيف نبني بلداً يقف شامخاً بدل أن ينهزم تحت أول ضغط خارجي؟ والجواب واضح في طهران: السيادة لا تُستجدى من الخارج، بل تُصنع بالصبر والبناء والإرادة.

زر الذهاب إلى الأعلى