
تشكل الانتخابات في أي نظام سياسي ركيزة أساسية للتعبير عن الإرادة الشعبية وتجسيد مبدأ التداول السلمي للسلطة، وهي المؤشر الأبرز على حيوية النظام الديمقراطي ومدى قدرته على تمثيل مصالح المواطنين. وفي الحالة العراقية، ظلت الانتخابات منذ عام 2005 حتى اليوم تمثل ميدانًا معقدًا تتنازعه العوامل السياسية والطائفية والاقتصادية والاجتماعية، مما جعل المواطن العراقي يعيش حالة من التردد بين المشاركة باعتبارها واجبًا وطنيًا، والمقاطعة احتجاجًا على ما آل إليه النظام من فساد وتهميش واحتكار للسلطة.
أولًا: المشاركة ومسؤولية الإصلاح من الداخل
إن المشاركة في الانتخابات تمثل في جوهرها فعلًا إيجابيًا يعبّر عن الإيمان بإمكانية التغيير عبر الوسائل السلمية، وهي خطوة نحو ترسيخ الممارسات الديمقراطية وتعزيز ثقافة المواطنة. فالمشاركة الواسعة ترفع من شرعية العملية الانتخابية، وتضعف من تأثير الكتل المتنفذة التي تعتمد على قواعدها الصلبة المحدودة. كما أن التصويت الواعي يمنح القوى المدنية والمستقلة فرصة أكبر لاختراق المشهد السياسي وتغيير موازين القوى داخل البرلمان.
وليس خافيًا أن الأنظمة الديمقراطية الناجحة في العالم لم تصل إلى نضجها الحالي بين ليلة وضحاها، بل عبر تراكم طويل من التجارب الانتخابية المتعاقبة، التي صححت أخطاءها بالتدريج. ومن هذا المنظور، فإن المشاركة الواعية والمبصرة في الانتخابات العراقية يمكن أن تمثل رافعة حقيقية للإصلاح، متى ما تحوّل التصويت من فعلٍ انفعالي أو طائفي إلى خيارٍ عقلاني مبني على البرامج والكفاءة والنزاهة.
ثانيًا: المقاطعة ومخاطر ترك الساحة للفساد
في المقابل، يرى دعاة المقاطعة أن العملية الانتخابية في العراق فقدت مصداقيتها بسبب هيمنة الأحزاب المتنفذة، واستغلال المال السياسي، وغياب العدالة في توزيع الفرص والموارد الإعلامية. وهم يعتبرون أن المشاركة تمنح شرعية زائفة لنظام فشل في تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان سيادة القانون.
إلا أن التجارب أثبتت أن المقاطعة الجماهيرية كثيرًا ما تؤدي إلى نتيجة عكسية، إذ تفتح المجال أمام القوى الراسخة في السلطة لتجديد نفوذها بسهولة، نظرًا لانخفاض نسبة المشاركة وانسحاب الأصوات المعارضة. وهكذا يتحول الصمت الانتخابي إلى تفويض ضمني للفشل القائم، ويُفرغ المقاطعة من مضمونها الإصلاحي لتصبح وسيلة غير فعالة للاحتجاج.
ثالثًا: بين الإحباط والأمل – ضرورة الوعي الانتخابي
لا شك أن فقدان الثقة بين المواطن والنظام السياسي العراقي هو أزمة بنيوية عميقة، نتجت عن عقود من التهميش وسوء الإدارة واستشراء الفساد. لكن تجاوز هذه الأزمة لا يتحقق بالانسحاب، بل ببناء وعي انتخابي جديد يقوم على النقد والمساءلة والاختيار الرشيد.
إن إدراك المواطن لقيمة صوته هو البداية الحقيقية لأي تحول ديمقراطي. فالصوت الانتخابي، حين يُمنح لمن يستحقه، يمكن أن يُغيّر المعادلة السياسية، ولو تدريجيًا. أما الامتناع عن التصويت، فهو تسليم إرادي بواقع مأزوم يكرّس الاستبداد المقنّع بالديمقراطية الشكلية.
رابعًا: الطريق نحو ديمقراطية ناضجة
لكي تتحول الانتخابات في العراق من طقسٍ سياسي إلى عملية تحول ديمقراطي حقيقية، لا بد من تحقيق مجموعة من الشروط، أهمها:
1 . إصلاح المنظومة الانتخابية بما يضمن عدالة التمثيل وشفافية النتائج.
2. تحييد المال السياسي والإعلام المنحاز عن التأثير في إرادة الناخبين.
3. تشجيع القوى المدنية والنقابية والمستقلة على خوض المنافسة ببرامج وطنية واضحة.
4. توسيع الرقابة الشعبية والإعلامية على أداء المفوضية والكتل السياسية.
5. تربية الأجيال الجديدة على قيم الديمقراطية والمواطنة لا على الولاءات الضيقة.
خاتمة
إن مستقبل الديمقراطية في العراق لن يُصنع في أروقة السلطة وحدها، بل في وعي المواطن وفي مشاركته الفاعلة في صناعة القرار. فالمشاركة ليست مجرد واجب انتخابي، بل فعل مقاومة سلمية ضد الفساد والاحتكار، وهي الطريق الوحيد لاستعادة الثقة بين الشعب والدولة. أما المقاطعة، فهي انسحاب من معركة التغيير، وتركٌ للساحة لأولئك الذين لا يريدون للعراق أن ينهض من أزماته.
إن الديمقراطية لا تنضج إلا بالممارسة، ولا تُبنى إلا بأصوات تؤمن أن الوطن أكبر من الطائفة، وأن المواطنة أسمى من الولاء الحزبي.



