
قد يبدو غريباً أن يرتبط إنسان ببلد لم يزره يوماً، ولم تجمعه به قرابة أو مصلحة سياسية او اقتصادية ، لكنه مع ذلك يشعر نحوه بالمودة والانتماء. هذه هي قصتي مع الجمهورية الإسلامية في إيران؛ قصة حب لم تنشأ من روابط الدم ولا من جغرافيا مشتركة، بل من مشاهد الطفولة وصور الذاكرة الأولى.
أنا فلسطيني المولد في العراق، نشأت في أحد أحياء مدينة الكاظمية حيث يلوح ضريح الإمام موسى بن جعفر عليه السلام شامخاً، وحيث كان الزوار الإيرانيون يتوافدون بقلوب خاشعة ووجوه مفعمة بالإيمان. كنت صغيراً أراقب تلك القوافل، أتعجب من لهجتهم وأصواتهم، لكنني شعرت أن في حضورهم روحاً مختلفة، دفئاً يترك أثراً عميقاً في القلب.
في بيتنا البسيط، كانت أربعة قنوات إيرانية تبث بوضوح عبر أريل التلفاز لان الاريل ، وحين ينام الجميع كنت أستيقظ فجراً لأتابع تلك التلاوات القرآنية التي كانت تُبث بحضور قائد الجمهورية الإسلامية. لم أكن أدرك يومها كل المعاني، لكنني كنت أستشعر الطمأنينة في أصوات القرّاء ووقار المشهد. ومنذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، بدأ ذلك الحب يكبر في داخلي حتى صار جزءاً من هويتي.
وحين كنا صغاراً، كنا نصغي إلى كلمات والدنا، الأديب الستيني الراحل محمد سمارة، الذي روى لنا بإعجاب واعتزاز ما حدث بعد سقوط نظام الشاه في إيران، حين قامت الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني، وأصدر قراراً تاريخياً بتحويل سفارة الكيان الصهيوني في طهران إلى سفارة فلسطين. تلك القصة التي حملها لنا والدي ظلّت راسخة في وجداني، وزرعت في داخلي قناعة بأن هذا البلد مختلف، وأنه يقف حيث يجب أن يقف.
ولأن حب الكاظمية والإمام موسى بن جعفر عليه السلام كان يجري في دمي، فقد أطلقت على ابني حين ولد عام 2000 اسم كاظم، تيّمناً بالإمام الكاظم. يومها، لم يعجب الاسم أحد موظفي مديرية الإقامة، فسألني باستغراب: “هل أصلك إيراني؟”، فأجبته بهدوء: “ولماذا؟”، فقال: “لأنك سميت ابنك كاظم”. فابتسمت وقلت له: “وهل الإمام الكاظم إيراني؟ إنه إمام جميع المسلمين”. كانت تلك اللحظة بالنسبة لي برهاناً جديداً على أن الهوية لا تُختزل في جنسية أو جنسية أخرى، بل في القيم والمبادئ التي يحملها الإنسان.
قد يقول قائل: كيف تحب بلداً لم تعش فيه ولم تختبره عن قرب؟ إجابتي واضحة: لم أكن مخطئاً في مشاعري، بل كنت على صواب وأفتخر بذلك. فإيران، وسط عالم صامت أو متخاذل، وقفت بجانب شعبي الفلسطيني. لم تساوم على القضية، ولم تتخلّ عنها في أوقات الشدة. في زمن التخاذل، ظلّت إيران الدولة الوحيدة التي قدّمت دعماً حقيقياً وصادقاً، ورفعت راية فلسطين دون أن تنحني.
إنه حب يتجاوز الجغرافيا والسياسة، حب صاغته التجربة الشخصية، وغذّته كلمات والدي، وعمّدته المواقف الصادقة، وامتد أثره حتى في أسماء أبنائي. لذلك، حين أقول اليوم إنني أحب إيران وأحب قائدها، فإنني لا أنطق بكلمات عابرة، بل أعبّر عن قناعة راسخة وتجربة ممتدة منذ عقود.
فمن الكاظمية إلى فلسطين، ومن طفولة الثمانينيات حتى حاضرنا هذا، بقيت إيران في قلبي، رمزاً للصمود وصدق الموقف، وحكاية حب لا تنقطع.
نبيل محمد سمارة
فلسطيني عراقي