مقالات

صناعة الملح في العراق “مورد استراتيجي مهمل ، وفرص تنموية “

رياض العيداني

المقدمة

الملح (كلوريد الصوديوم NaCl) يعد من أقدم وأهم الموارد الطبيعية التي اعتمد عليها الإنسان في حياته اليومية منذ آلاف السنين ، فقد ارتبطت قيمته تاريخياً بالتجارة والحروب ، حتى سُمِّي في بعض الأزمنة بـ(“الذهب الأبيض”) ومع تطور الاقتصادات الحديثة ، لم يعد الملح مجرد مادة غذائية لتحسين الطعم وحفظ الأغذية ، بل أصبح مادة خاماً استراتيجية تدخل في عشرات الصناعات ، من صناعة الكيماويات والزجاج والورق ، إلى الصناعات الدوائية والبيئية ، فضلاً عن استخداماته المنزلية والزراعية.

في الاقتصاد العالمي، تشهد صناعة الملح نمواً مطرداً مدفوعاً بزيادة الطلب الصناعي والسكاني ، إذ يتجاوز الإنتاج العالمي للملح (300 مليون طن سنوياً) وتقدَّر قيمة أسواقه بمليارات الدولارات سنوياً ، بما يجعله عنصراً اقتصادياً أساسياً يمكن أن يسهم في دعم ميزان المدفوعات وتحقيق الاكتفاء الذاتي للدول المنتجة.

أما في العراق، فإن صناعة الملح تمثل فرصة كامنة غير مستغلة بشكل كامل ، فعلى الرغم من توفر موارد ملحية طبيعية ، ولا سيما في (“مملحة البصرة”) التي تنتج قرابة (350 ألف طن سنوياً) ، لا تزال السوق العراقية تعتمد على الاستيراد لتغطية الطلب المحلي لبعض الأنواع والخصائص من دول الجوار (السعودية ، ايران) هذا الواقع يطرح تساؤلات جوهرية :

ما هي الإمكانات الحقيقية لصناعة الملح في العراق؟

وما هي الاستخدامات الاقتصادية التي يمكن أن توسّع من قيمة هذا القطاع؟

وما التحديات التي تعيق تطويره وتحويله إلى مصدر دخل استراتيجي يرفد الاقتصاد الوطني؟

تهدف هذه الدراسة إلى تقديم قراءة تحليلية شاملة حول صناعة الملح في العراق من خلال استعراض مستويات الإنتاج والاستهلاك ، وتحديد أبرز الاستخدامات الصناعية والغذائية ، إضافة إلى مناقشة الجدوى الاستثمارية والتحديات الاقتصادية والتقنية ، كما تسعى الدراسة إلى إبراز الفرص المستقبلية التي يمكن أن تجعل من صناعة الملح قطاعاً صناعياً واعداً يسهم في تنويع الاقتصاد العراقي وتقليل الاعتماد على الاستيراد.

أولاً: واقع إنتاج واستهلاك الملح في العراق

يتركز إنتاج العراق من الملح في مملحة البصرة ، بقدرة سنوية تقارب (350 ألف طن) ، وعلى الرغم من أن هذا الرقم يُعد جيداً مقارنة بحجم الطلب ، إلا أن الإنتاج المحلي لا يغطي بعض المواصفات المطلوبة في الصناعات الدوائية والكيماوية عالية الدقة ، ما يدفع إلى استيراد أنواع معينة من الملح.

تشير بيانات التجارة الخارجية إلى أن العراق أنفق خلال الربع الأول من عام 2025 أكثر من (21 مليار دولار) على الاستيراد، تشمل مختلف القطاعات، لكن لا توجد بيانات دقيقة حول حجم استيراد الملح بشكل منفصل، هذا الغياب في الإحصاءات التفصيلية يعكس ضعف التخطيط لهذا القطاع وعدم إدراجه ضمن أولويات السياسة الصناعية.

ثانياً: الاستخدامات الاقتصادية للملح

يتميز الملح بتنوع تطبيقاته ، مما يجعله عنصراً محورياً في عدة قطاعات:

1-. الاستخدامات الغذائية ومنها :

أ-. تحسين النكهة وحفظ الأغذية.

ب-. صناعة الأجبان والمخللات واللحوم المصنعة.

2-. الصناعات الكيميائية والدوائية وكما يلي:

أ-. إنتاج الصودا الكاوية والكلور.

ب-. صناعة المنظفات والصابون.

ج-. تطبيقات طبية مثل محاليل الملح الوريدية وعلاج أمراض الغدة الدرقية.

3-. الصناعات الأخرى مثل :

أ-. صناعة الزجاج ، الورق ، الأصباغ ، والثلج.

ب-. الاستخدامات الزراعية (تحسين التربة ومكافحة بعض الآفات) .

ج-. التطبيقات البيئية في تنقية المياه ومعالجة الصرف الصحي.

3-. الاستخدامات المنزلية والشخصية مثل :

أ-. تنظيف الأسطح ومكافحة الحشرات.

ب-. العناية الشخصية (حمامات الملح وتقشير البشرة).

هذا التنوع يعكس أن الملح ليس مجرد سلعة استهلاكية ، بل هو مدخل إنتاجي رئيسي في سلاسل صناعية متعددة.

 

ثالثاً: أنواع الملح ومصادره في العراق :

تتنوع أنواع الملح المتاحة في السوق العراقية بين التالي:

1-. ملح الطعام المعالج باليود.

2-. ملح البحر المستخرج من (مملحة البصرة).

3-. الملح الصناعي المستخدم في الكيماويات والزجاج.

4-. الملح المستورد مثل ملح الهيمالايا الوردي والملح البحري المدخن.

أما مصادر الاستخراج فهي:

أ-.تبخر مياه البحر (المصدر الأساسي في البصرة) .

ب-. المياه الجوفية المالحة (فرصة مستقبلية تتطلب استثمارات تقنية) .

ج-. المناجم الصخرية (غير متوفرة محلياً بكثرة) .

رابعاً: الجدوى الاستثمارية

يُظهر تحليل الجدوى أن صناعة الملح في العراق تحمل فرصاً واعدة ، لاسيما إذا تم تطوير البنية التحتية و”تبني استراتيجيات تسويق فعالة” ، وإن عوامل نجاح الاستثمار تشمل:

1-. انخفاض التكاليف الإنتاجية نسبياً.

2-. توافر الموارد الطبيعية محلياً.

3-. إمكانية تطوير منتجات جديدة مثل الأملاح الطبية وأملاح العناية الشخصية.

4-. وجود أسوق محلية واسعة ، مع إمكانية التصدير لدول الجوار.

ومع ذلك، تبقى التحديات قائمة ، ومنها ضعف الإحصاءات الرسمية ، ونقص التكنولوجيا الحديثة في الاستخراج ، والحاجة إلى تحسين معايير الجودة لمطابقة المواصفات العالمية.

خامساً: التحديات والحلول المستقبلية

إن من أبرز التحديات هي التالي :

أ-. غياب البيانات التفصيلية حول الاستيراد والإنتاج.

ب-. محدودية الاستثمارات الخاصة في هذا القطاع.

ج-. التلوث البيئي الذي قد يؤثر على جودة الملح.

أما الحلول الممكنة فتشمل:

1-. تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص للاستثمار في الممالح الحديثة.

2-. دعم البحث العلمي لتطوير تقنيات استخراج ومعالجة الملح.

3-. وضع سياسة صناعية واضحة تدمج صناعة الملح ضمن خطط الأمن الغذائي والاقتصاد الصناعي.

الخاتمة

تشكل صناعة الملح في العراق قطاعاً اقتصادياً مهماً يمكن أن يسهم في تنويع القاعدة الإنتاجية للبلاد وتقليل الاعتماد على الاستيراد وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للاقتصاد العراقي ، فضلاً عن أن تطوير هذا القطاع يتطلب رؤية استراتيجية متكاملة تشمل (الاستثمار في التكنولوجيا ، تحسين الجودة ، وتوسيع نطاق الاستخدامات الصناعية) ومن خلال إدارة رشيدة للموارد الملحية ، يمكن للعراق أن يحول (“الذهب الأبيض” )إلى رافعة اقتصادية جديدة تدعم النمو المستدام وتفتح آفاقاً للتصدير الإقليمي.

زر الذهاب إلى الأعلى