مقالات

الشيعة في العراق: إرث القوة وتحديات الغد

رياض الفرطوسي 

منذ سقوط النظام السابق، وجد الشيعة في العراق أنفسهم أمام فرصة تاريخية طال انتظارها، فرصة الانتقال من الهامش إلى مركز القرار، ومن موقع المعارضة إلى موقع الحكم. وقد رافقت هذه اللحظة مشاهد من البطولة والانتصار على أعتى موجات الإرهاب التي هددت وجود الدولة نفسها، فكان للشيعة نصيب الأسد من التضحيات والدماء التي صنعت نصراً لا يمكن إنكاره. غير أن هذا الإرث، مهما كان مشرفاً، لا يكفي وحده ليؤسس لمستقبل آمن ومستقر، فالتاريخ لا يرحم من يركن إلى الماضي، والزمن لا ينتظر من يستهلك نفسه في الصراعات الجانبية.

لقد انتقل الصراع اليوم من جبهات السلاح إلى ميدان السياسة والاقتصاد والإدارة. لم يعد العراقي يكتفي بالحديث عن الشهداء ولا بالاستماع إلى شعارات المقاومة، بل يطالب بخدمات وكرامة وفرص عمل، يريد دولة تحترمه لا جماعة تحكمه، ويريد مستقبلاً يتجاوز الخراب الذي عاشه جيلاً بعد جيل. هنا يبرز التحدي الأكبر للشيعة: هل يستطيعون أن يتحولوا من جماعة منتصرة إلى ركيزة دولة عادلة؟ أم سيبقون أسرى الانقسامات والمنافسات التي تستنزفهم من الداخل؟

الخطر الحقيقي الذي يتهدد الشيعة اليوم لا يأتي من خصومهم الخارجيين، بل من ضعفهم الداخلي، من نزعة التناحر على المواقع والمكاسب، ومن تحويل الساحة السياسية إلى حلبة شخصنة وتسقيط. حين يتصدع البيت من الداخل، فإن أي قوة عسكرية أو نفوذ اقتصادي لا يكفيان لحمايته. وإن الثروة النفطية التي تشكل أحد أعمدة قوة الحكم الشيعي قد تتحول إلى عبء إذا لم تُدار بحكمة، فالثروة من دون مشروع وطني تتحول إلى لعنة تفتح أبواب الفساد وتفاقم السخط الشعبي.

الانتخابات القادمة تقف شاهداً على هذا المفترق. فهي ليست مجرد سباق على المقاعد البرلمانية، بل امتحان لإرادة الشيعة في إصلاح ذاتهم وإقناع جمهورهم بأنهم جديرون بالبقاء في موقع القيادة. الناس، حتى داخل البيئة الشيعية، باتوا أكثر ميلاً إلى معاقبة من خذلهم، وأقل استعداداً لمنح الولاءات على بياض. الزمن تغيّر، ومعه تبدلت أولويات الناخبين، ولم يعد الرصيد الجهادي أو الرمزي يكفي لضمان البقاء في السلطة.

إن الشيعة، الذين طالما عُرفوا بقدرتهم على الصبر الطويل وتحمل التضحيات الجسيمة، مدعوون اليوم إلى استثمار هذه القدرة في معركة جديدة، معركة بناء الدولة. فالتاريخ لا يكتب بالرصاص فقط، بل بالأفكار والمشاريع والقدرة على الإدارة الرشيدة. وإذا لم يستوعبوا هذه الحقيقة، فإن خسارتهم لن تعني مجرد تراجع سياسي عابر، بل ستفتح الباب أمام عواصف انتقامية وصراعات قد تعيد إليهم قسوة الأزمنة الماضية.

الخيار أمامهم ليس غامضاً: إما أن يرتقوا إلى مستوى الدولة ويتجاوزوا حدود الجماعة، وإما أن يفقدوا ما بنوه بدمائهم وتضحياتهم. المستقبل لا يرحم المترددين، والوقت لا يترك فرصة لمن يضيعها في صغائر الخصومات. العراق بحاجة إلى عقلاء يضعون المصلحة العامة فوق نزاعات الكراسي، والشيعة بحاجة إلى أن يدركوا أن قوتهم الحقيقية ليست في السلاح ولا في الثروة، بل في قدرتهم على قيادة بلد متنوع نحو غد أكثر استقراراً وعدلاً.

زر الذهاب إلى الأعلى