
التاريخُ يَسيرُ على هواهُ ويُصَحِّحُ مساراتِه مهما طالَ الزَّمنُ، ويستعجلُ التَّصحيحَ عندما تَشتدُّ المِحَن.
نتنياهو يَتَوَهَّمُ ويُبَلْطِجُ ويَتَعَنْتَرُ على هواهُ، فيَسْتَفِزُّ الزَّمنَ ويَسْتَعْجِلُهُ لتَغْييرِ مساراتِه.
ترمب تاجرٌ لا قيمُ ولا استراتيجياتَ عنده، يُحاوِلُ ثم يَقْتَنِصُ الفُرْصَة؛ فمَبدَؤُهُ وإنجازُهُ الوحيدُ: الصَّفقات.
أتمَّ إنهاءَ دورِ “شُرطيِّ العالم” لأمريكا، وكَسَرَ عُنُقَ حكومةِ الشَّركاتِ والدَّولةِ العميقةِ في أمريكا. وعندما عَجَزَ عن لوبي العولمةِ في الحربِ الأوكرانيةِ وحربِ تدميرٍ وإبادةِ غزَّة، تَحوَّلَ إلى الاستثمارِ بالفُرَصِ وجَني الأرباح. ومنطقُهُ: كيفما جاءت النَّتائجُ لأَحصُلَ على الصَّفقة.
نتنياهو الأعمى “ما بِشوف ضراب السيوف”، كُلِّفَ بتَطْبيشِ المنطقةِ وتدميرِ السياداتِ والدُّوَلِ والجُيوش. فالفوضى والتدمير، بما في ذلك إعاقةُ وصولِ النفطِ والغازِ إلى أوروبا وآسيا، هدفٌ مَحوريٌّ لكِلا لوبي أمريكا المُحْتَرِبَيْن.
فبعدَ عَجْزِ حربِ العقوباتِ وحربِ الضرائبِ الجمركية، لتكنْ حربُ التَّطْبيشِ والتدمير بيدٍ قَذِرةٍ، ولا بأسَ أنْ تُقْطَعَ بعد إنجازِ المهمَّة.
فماذا تَخسرُ أمريكا لِتَرْميمِ نفسِها والإحاطةِ بأزماتِها وتأزيمِ الصين وأوروبا إذا أُزيلت إسرائيل ولو بالإبادة؟ فقد كَرَّسَ نتنياهو حروبَ الإبادة.
الحروبُ والتاريخُ ومساراتُ المستقبلِ لا تَحْتَرِمُ إلا مَنْ يَعيها، ومَنْ يَعرِفُ الجاري اليومَ وما سيكونُ غداً ويُحاوِلُ أنْ يكونَ في صالحِها.
الدوابُّ والحيواناتُ والإنسانُ والجمادُ خُلِقوا بثُنائيَّة: الخيرِ والشَّرِّ، والفِعلِ وردِّ الفعل، والعُدوانِ والمقاومة. ودَوْماً البشرُ لا يُفْعِلون ما عندهم من إمكاناتٍ وقدراتٍ إلا لاتِّقاءِ الشَّرِّ والخطر.
ضَرَبَ نتنياهو في قطر، فكلُّ الأمورِ والظروفِ مُوَفَّرةٌ ويَسيرةٌ، وهو بَلْطَجي.
عُقِدَتْ قمَّةٌ تافهةٌ لم تُغَيِّرْ من طبائعِ القِمَمِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ بصفتِها ظاهراتٍ صوتيَّة، إلا أنَّها هذه المرَّةَ صوتُها مُزعِجٌ فقد خرجَ من طَبْلٍ مَثقوب.
إلا أنَّ الزمنَ والتاريخَ قَرَّرا أنْ يُصَحِّحا مساراتِهِما؛ ففلسطينُ قضيَّةٌ شاميَّةٌ وعربيَّةٌ وسُنِّيَّةٌ وإنسانيَّة.
تَخلَّتْ أو عَجَزَتْ الشامُ، وانشغلت السُّنِّيَّةُ بوَهْمِ الحربِ على الشيعيَّة؛ فتَوَلَّتْ الشيعيَّةُ المهمَّةَ لتحصينِ نفسها وتثبيتِ مكانتِها وتعزيزِ إسلامِها بتَبَنِّي القضيَّةِ وإسنادِها والمقاومة، وحقَّقت إنجازاتٍ عبقريَّةً أنهَضَتْها وجعلتْها مُحرِّكاً دائماً للتوازناتِ في الإقليمِ والعالَم.
أُصيبت الشيعيَّةُ بانتكاسةٍ لأسبابِها وطَبائعِها، ولطبيعةِ القضيَّةِ وانتماءاتِها.
كان ردُّ قطر وحليفِها التُّركيِّ قاصراً وانهزاميّاً، وهذه من طبائعِ التحالفات؛ فمَنْ يَنْتَدِبُ نفسَهُ وكيلاً أجيراً كما فعلتا منذ عقودٍ لا يَقوى على الرَّفْضِ والمقاومة ولا يُغيِّرُ الأشرِعَة.
السعوديَّةُ وأميرُها أَدْرَكا أنَّها مُستهدَفةٌ، وأنَّ العقودَ والسلاحَ والقواعدَ الأمريكيَّةَ ليست إلا خناجرَ مَسمومةً في الصَّدر. وتجربةُ قطر طازجةٌ.
الأميرُ بن سلمان ذكيٌّ، بَراغماتيٌّ، وإصلاحيٌّ جادٌّ، فوجَدَ ضالَّتَهُ بنَصيرٍ سُنِّيٍّ متمكِّنٍ قويٍّ قادرٍ على تأمينِ الحماية، ومن طبائعِ الحلفاء. ولم يُطَبِّعْ أو يُساوِمْ أو يَعترفْ بإسرائيل، بل مُقاتلٌ وجادٌّ، وألحقَ هزيمةً صاعقةً بالهندِ المُسَلَّحةِ بسلاحٍ وتحالفٍ عميقٍ مع إسرائيل، فلاذَ به.
وَقَّعت السعوديةُ مع باكستان تحالفاً دفاعيّاً استراتيجيّاً.
نعم، إنَّها ضربةٌ موفَّقةٌ وتحوُّلٌ نوعيٌّ في دورِ السعوديَّة وتأمينِ مستقبلِها، وربَّما احتلالُ موقعٍ متقدِّمٍ في إدارةِ العربِ والإقليم.
اتفاقيَّةُ الدِّفاعِ المشتركِ بين السعوديةِ وباكستانَ حدثٌ نوعيٌّ يَستعجِلُ تصحيحَ التاريخِ مساراتِه، فيُقَيِّدُ تركيا والإخوانَ ويُعَرِّيَهم كأذنابٍ وعبيدٍ لمشروعِ تفكيكِ المنطقةِ والعرب، ويُقَوِّي الموقفَ السعوديَّ. والأهمُّ: يَحْتَضِنُ إيرانَ ولا يُعاديها.
فإيرانُ تتوسَّطُ الحليفَيْنِ جغرافياً وسياسياً وفي الدِّفاع، وتُؤمِّنُ الاتصالَ والتواصُلَ بينهما. وقد تصالَحتِ السعوديَّةُ مع إيرانَ، وباكستانُ الدَّولةُ الإسلاميَّةُ الوحيدةُ التي أعلنت نصرةَ إيرانَ واستعدادَها للقتالِ معها ردّاً على اعتداءِ ترمب ـ نتنياهو.
الأهمُّ أنَّ الهلالَ بات سُنِّيّاً، تتوسَّطُهُ الشيعيَّةُ وتُؤمِّنُهُ، والأمرُ المُنتَظَرُ أنْ يَمُدَّ الهلالُ يَدَهُ إلى القاهرة.
فالأكثرُ ترجيحاً أنَّه سَيَفْعَلُها، والقاهرةُ باتت أكثرَ جاهزيَّةً وحافزيَّةً وبحاجةٍ ماسَّة.
عندما يَكْتَمِلُ الهلالُ ليَصيرَ بَدْراً، سيتغيَّرُ الزمنُ واتجاهاتُه، وستنتصرُ غزَّة، وتبدأ رحلةُ تحريرِ فلسطين، وتصفيةُ الوجودِ والنفوذِ الأنغلو-سكسوني في العربِ والإقليمِ والعالَم.
الأهمُّ تذكَّرْ: أنَّ باكستانَ حليفٌ موثوقٌ واستراتيجيٌّ للصين، وإيرانَ حَسَمَتْ أمرَها وتعمَّقت علاقاتُها بالصين. والسعوديَّةُ أتمَّت الانحيازَ للعلاقاتِ المصلحيَّة مع الصين.
والصينُ: القوَّةُ العالميَّةُ الصاعدةُ التي تَبُزُّ أمريكا وعالمَها الأنغلو-سكسوني، واستعرضت بالأمسِ ثالوثَها النَّوويَّ العسكريَّ والسِّياسيَّ بالصُّورةِ الثُّلاثيَّةِ لزُعماءِ روسيا وكوريا الشَّماليَّةِ والصين.
إنَّه زمنُ التَّحريرِ وتوليدِ العالَمِ الجديد من الخاصرةِ الغزَّاويَّة.